معجزة القرآن وقولهم فيها
كان المشركون لا يعدون القرآن معجزات النبيين السابقين كعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص ، وإخبار الناس بما في بيوتهم وما يدخرون فيها وإحياء الموتى ، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله وإنزال المائدة من السماء ليأكلوا منها ، كانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزات مادية حسية ، ولا يقنعون بأن تكون المعجزة قرآنا يقرأ فبين الله تعالى أنه الذي يأتي المعجزات الدالة على أنه أرسل الرسل فهي إمارات الرسالة يعلم بها من الرسول بأنه من عنده .
فقال تعالى ردا على طلبهم آية:{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمن بها . . .( 109 )} [ الأنعام] .
{ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} ، أي إذا جئتنا بالقرآن آية على صدق الرسول مكان آية أخرى حسية رفضناها وجئنا بهذه الآية المعنوية مكانها ، والله صاحب الآيات والرسالات أعلم بالصالح منها ، و ( أعلم ) أفعل تفضيل على غير بابه لأنه لا مفاضلة بين علم الله تعالى ، وعلم غيره .
وعلم الله تعالى بما ينزل البالغ أقصى كمال العلم اقتضى أن تكون معجزته قرآنا يقرأ ، وباق يتحدى الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة ، وهو القادر على كل شيء ، لأن المعجزات الحسية ، إعجاز وقتي ينقضى بعد وقته ، ولا يعجز إلا من رآه أو تواتر خبره من بعده ، وإن القرآن المعجزة الكبرى الخالدة الباقية إلى يوم القيامة هي التي سحلت معجزات النبيين من قبله .
يقولون غير مصدقين معجزة النبي صلى الله عليه وسلم:{ إنما أنت مفتر} ، أي إنما أنت كذاب قد افتريت الرسالة وادعيتها من غير حجة ولا برهان ، وقد رد الله تعالى قولهم بقوله سبحانه:{ بل أكثرهم لا يعلمون} ،{ بل} للرد عليهم ، والإضراب عن قولهم الناشئ عنه ، وقال سبحانه:{ أكثرهم} ، للدلالة على الذين صدقوا وآمنوا بالمعجزة هم الأقل عددا ، وإن كانوا الأكثرين إدراكا وعلما .
ذكرنا في كلامنا أن معنى الآية المعجزة الدالة على رسالة الرسول ، وأن الله تعالى يرفع معجزات كانت قد جاءت مؤيدة رسالات الأنبياء السابقين قد بدلها الله تعالى ، وأتى بمعجزة صالحة للبقاء تتناسب مع رسالة خاتم النبيين الذي تكون رسالته حجة على العالمين إلى يوم القيامة فتكون قائمة ثابتة تنادي بحجية ما يدعو إليه يوم القيامة .
ولكن أكثر المفسرين يفسرون الآية بالآية المتلوة حتى الزمخشري ، ويقولون إن معنى الآية ، وإذا بدل الله آية فنسخها ورفعها وجاء بآية أخرى لمصلحة في الأولى في حكمها في زمانها ، والإتيان بآية أخرى لمصلحة حكمها في هذا الزمان الذي جاءت ، وإن ذلك جرى على أقلام أولئك المفسرين لرواج فكرة النسخ تلاوة وحكما ، وحكما لا تلاوة ، وتلاوة لا حكما كما ادعى في الرجم ، وإن ذلك أداهم إلى التساهل في دعوى الرجم ، ولو كان الجمع بين الآيتين ممكنا لا تخالف بينهما .
وإن الذي ذكرناه أولا هو المقبول عندنا ، فلا نسخ في هذا الموضع على الأقل في آية من القرآن للوجوه الآتية .
الوجه الأول – أن الكلام في موضوع القرآن ذاته وكونه مفترى أو قام الدليل على صدقه لظاهر قوله عنهم:{ قالوا إنما أنت مفتر} فحصروه في الافتراء فنفوا الرسالة كلها ، ويناسب ذلك أن يكون التبديل في المعجزات السابقة ، ووضع القرآن في موضعها .
الوجه الثاني – أنه تعالى قال بعد ذلك ردا على الافتراء وعلى الاعتراض بقوله:{ قل نزله روح القدس من ربك} فتبين أن موضوعها القرآن كله ، لا نسخ آية ، واستبدال آية أخرى بها .
الوجه الثالث – قوله تعالى بعد ذلك:{ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( 103 )} .
الوجه الرابع – أن هذه السورة مكية ، والآيات المكية تتجه نحو التوحيد وإثبات الخالق ، وأحكامها قليلة ، والتجربة فيها قليلة .
لهذا كله سمحنا لأنفسنا بأن نخالف كثرة المفسرين ، وإن كان لهم أجر فيما اجتهدوا ، وهو أجر واحد .