إن ربك للمؤمنين يوم الحساب
ذكر سبحانه وتعالى حال الذين كفروا بعد إيمانهم ، وكيف نزل عليهم غضب وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم . بأنهم غفلوا واستغرقتهم الغفلة ، وكانوا هم الخاسرين ، وحدهم ، بعد ذلك ذكر حال الذين آمنوا وفتنوا ، وأوذوا وهاجروا في سبيل الله ، فقال تعالى:{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 )} .
{ ثم} هنا للعطف ، والتباين بين فريقين شرح صدر الكفر آذى غيه ، وفريق صبت على الإيمان ، وصبر على الأذى ، وهاجر .
و{ إن ربك للذين هاجروا} ، فيها معنى الحماية الكاملة ، والاعتماد على ركن لا خلل فيه فقط ، كما يقول القائل للسارقين ما سرقوا ، ولذى المال ما ملكوا ، ولكل إنسان ما يملك من مال ونسب ، وأما المؤمنون الصادقون في إيمانهم فلهم الجنة ، فمعنى هذه الجملة السابقة أن قوتهم وحمايتهم من الله فقط ؛ ولذا قدم قوله تعالى:{ إن ربك} على الجار والمجرور ، لبيان مكانة ناصرهم ، وأنه فوق النصراء جميعا ، فإذا كان الأقوياء قد آذوهم ، وأعنتوهم ، وحرموا الهناءة ، إلا أن تكون قلوبهم عامرة بذكر الله وقوله:{ للذين} ب ( اللام ) للاختصاص ، أي أنهم مختصون به دون غيرهم .
وقال تعالى:{ من بعد ما فتنوا} الفتن يكون للمعدن ليخرج ما خالطه من مواد مغايرة لجوهره ، وفتن المؤلم تمحيصه ، وأن تذهب كل ما عساه يعلق به من أدران الدنيا ، والهجرة الواضحة هنا أنها هجرة الأولين إلى الحبشة ، ويصح أن يراد الهجرة إلى الحبشة والمدينة وإذا كانت السورة مكية ، فهي تنبئنا بالهجرة إلى المدينة التي كانت أول الجهاد ومن كان الجهاد ، وقوله تعالى بعد ذلك:{ ثم جاهدوا وصبروا} إخبار أنه سيكون جهاد بحمل السيف ، والغزوات المباركة ، والسرايا التي كان يبعثها النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد والدعوة وإن عطف وصبروا على الجهاد مع أن الجهاد عدته الصبر أولا ، وإعداد الأدوات بالمحل الثاني ، إن هذا العطف يفيد أن المؤمن يختبر بأمرين الصبر ، وهو مختبر به دائما ، وقد كان قوة المؤمنين وهم بمكة ، وثاني الأمرين الجهاد في سبيل الله بحمل السيف مدافعا ، محاربا ، وهذا يحتاج الصبر ، كما قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 200 )} [ آل عمران] .
وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنه للمؤمنين ، في مقابل أن الذين كفروا بعد إيمانهم للشيطان ذكر سبحانه أخص صفات الذات العلية وهو أنه غفور رحيم ، فقال:{ إن ربك من بعدها لغفور رحيم} الضمير في{ بعدها} يعود إلى الهجرة ، ذلك لأن الهجرة بعد صقل النفوس بالفتنة تتجه إلى الله ، وقد سترت كل ذنوبها ، فيكون الخلاص لله تعالى ، ومن بعد ذلك يكون الغفران ، وتكون الرحمة بالنصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة .
وفي قوله تعالى:{ إن ربك من بعدها لغفور رحيم} يفيد أمورا أربعة:
الأمر الأول – تكرار الربوبية ، وفي ذلك دلالة على أنه مع المؤمنين دائما ولا يتركهم ، وهو ربهم والمتولي أمورهم .
الأمر الثاني – تأكيد هذه الصلة بالعبودية والربوبية بعد الهجرة ، كما كانت قبلها .
الأمر الثالث – تأكيد المغفرة والرحمة ، فقد أكد بالجملة الاسمية ، وإن واللام .
الأمر الرابع – دوام الرحمة والمغفرة ؛ لذا كان بصيغة المبالغة الدالة على دوام رحمة الله بالمؤمنين ، وذكر الغفران لما عساهم يكون منه من عبارات موهمة لمطاوعة المشركين