ثم قال تعالى:
{ ثم كلي من الثمرات فاسلك سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( 69 )} .
عطف سبحانه وتعالى ب{ ثم} للتراخي بين اتخاذ البيوت من الجبال والأشجار ومما يعرشون ، وذلك إشارة إلى أنها تبذل في البيوت نظاما محكما دقيقا مما يأخذ وقتا طويلا ، والله تعالى يأمرها بمقتضى الفطرة التي فطرها تعالى:{ ثم كلي من كل الثمرات} فلا تفرق بين الزهور فكلها طعام لها ، فتأخذ من نوار كل زهرة ، لا فرق بين زهر مر ، وزهر حلو ، وتأخذ من كل الثمرات تأخذ البنفسج والبرتقال والخوخ ، والقطن ثم ينساغ في بطنها ، ثم تخرجه بعد ذلك عسلا حلوا ، مشتبه طعمه ويختلف لونه ، ويكون لونه على حسب المرعى ، فلون البنفسج يبدو إذا كان غداؤه من البنفسج ، ورائحته تكون مثله ، ولون البرتقال إذا كان كذلك ، وقال تعالى:{ فاسلكي سبل ربك ذللا} وهي حال من السبل ، أي أن طرائق الله التي ألهمك إياها مذللة سهلة غير مجهولة تغدو من هذه السبل ، وتروح منها غير مجهولة لها ، ولو ذهبت في طلب الرزق إلى آماد بعيدة .
وهذا كله على أن{ ذللا} حال من السبل ، ويصح أن تكون حالا من ضمير{ فاسلكي} فيكون حالا من النحل ، والمعنى اسلكي سبل ربك حال كونك مذللة لما خلقك الله تعالى وهو أن تأخذي الثمرات وقد تمكنت منها ومن الطريق إليها ، مسخرة لما خلقك الله تعالى له سبحانه .
ويقول سبحانه:{ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه} فما بين أبيض وأصفر وبنفسجي ووردي ، وذلك على حسب الغذاء الذي يتغدى به النحل ، وعلى حسب سن النحلة التي تخرجه .
وقد قالوا:إن العسل تمجه لعابا ، ولا يخرج من بطنها ، والجواب عن ذلك أنه ينساغ في بطونها عسلا ثم تمجه لعابا ، وهو يتكون أولا في البطن ، ومع اختلاف ألوانه ورائحته يجتمع فيه وصف الحلاوة له .
وقال تعالى:{ فيه شفاء للناس والتنكير هنا للتعظيم ، أي فيه شفاء عظيم للناس ، ولقد قال بعض العلماء إن فيه شفاء عاما ؛ لأن التنكير للتعظيم لأن فيه شفاء لكل الأسقام ، وعن ابن عمر أنه لا يشكو قرحة إلا جعل عليه عسلا ، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا .
وحكى عن بعض التابعين أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى بالعسل في كل مرض .
وإن النص القرآني يدل على أن فيه شفاء عظيما ، ولكن لا يدل على أنه تعالى يشفى به كل الأمراض ، وحسبه أن يكون فيه شفاء عظيم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوي به أمراض البطن ، روى البخاري ومسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم:إن أخي استطلق بطنه ، فقال صلى الله عليه وسلم:"اسقه عسلا"، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال:يا رسول الله سقيته عسلا فما زاد إلا استطلاقا ، قال:"اذهب فاسقه عسلا"ثم جاء فقال:يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا"فبرأ{[1387]} .
ويقول ابن كثير في التعليق على هذا الحديث:
قال بعض علماء الطب:كان هذا الرجل عنده عضلات فما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا فاعتقد الأعرابي أنه يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، صم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسدة استمسك بطنه وصلح مزاجه .
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} ، أي أن في خلق النحل وإلهامه وتدبيره وخروج العسل المصفى من بطونه لآية دالة على قدرة الله وعظيم خلقه لقوم يتفكرون ويتدبرون في آياته وما تدل عليه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .