{ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( 68 )} .
الحيوانات كلها تسير بإلهام الله تعالى ، فأم الحيوان ترضع وليدها ، وتحنو عليه وترعاه بفطرتها ، وكأنها أم مثل أمهات بني آدم تدفئه وتقيه الحر والبرد .
وإن ذلك الإلهام يصح أن يسمى وحيا ؛ لأنه إلهام من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى:{ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( 68 )} . واختص سبحانه وتعالى النحل بتسمية إلهامها وحيا ، لأنها ألهمت نظاما محكما دقيقا يعجز عنه بعض العقلاء ، فهي ألهمت أن يكون لها رئيس وهو يسوسها وهو ينصف بينها ويحكم بالعدل ، وينفى القذى حتى إنه لو رميت على إحداها نجاسة قتلها تطهيرا للجماعة ، وأن تعيش طهورا ، وإذا ظهر فيها رئيس قاتل الأصيل ذلك الرئيس ونصروه عليه ، وإنها لتبنى بنيانها بإحكام فتجعله على شكل مسدسات لكي يكون البناء محكما ، ولكي يكون كل فراغ مسدود ، وتجتمع جموع النحب ، وتذهب مجتمعة في غدوها وروحها وفي غذائها وفي ريها حتى إنها كون ذات منظر بديع يدل على إحكام الاتحاد بحيث لا تنأى عن الجمع واحدة ، وهي تراقب نفسها بحيث إذا هلكت إحداها أخرجته ، وكأنها تدفعها خارج الأحياء ، وهكذا ، وفي طبعه النظافة فرجيع النحل يخرجونه خارج الخلية ، ويقول الغزالي في الإحياء "لا يأكل من العسل إلا مقدار شبعه ، وإذا قل العسل في الخلية قذفه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاذه ، وإذا نفذ النحل أفسد بيوت الملكات ، وبيوت الذكور ، وربما قتلت ما كان منها هناك".
ولهذا التنظيم العجيب الذي يعجز عن بعضه أصحابه العقول ، قال الله تعالى بالنسبة للنحل ،{ وأوحى ربك إلى النحل} وأضاف الإيحاء إلى الرب سبحانه ، لأن ذلك الوحي فيه فائدة للإنسان ، وهو من مقتضى الربوبية ، ومن النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده فيما تخرجه من بطونها من شفاء للناس .
{ أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} ،{ أن} تفسيرية ، وما بعدها تفسير لما قبلها ، فالوحي هو أمر الله تعالى لها أن تتخذ من الجبال بيوتا تعيش في كهوفها ، وتبيض فيها ،{ ومن الشجر} ، أي تأخذ من فروع الأشجار بيوتا تصنع فيها ما يصنعه صاحب البيت فيه ،{ ومما يعرشون} ، أي مما يعرشون على سقوفهم ، ومما يعرشونه لها من خلايا .
و{ من} للتبعيض ، أي يتخذون بعض الجبال وبعض الشجر وبعض مما يعرشون ، وما يخصص لها من خلايا يكون كله لها بهذا التخصيص