أطوار الإنسان وأحواله
هذا بيان للأدوار التي يمر بها الإنسان وهي تدل على عظم قدرة الله فيه ، وفيها بيان واضح إلى قدرته على الإنشاء والإدبار وقدرته على الإخفاء ، وتحلل جسم الإنسان شيئا فشيئا حتى يكون الموت ، وفي ذلك إيماء إلى قدرته سبحانه على الإعادة{. . .كما بدأكم تعودون ( 29 )} [ الأعراف] .
قال تعالى:{ والله خلقكم ثم يتوفاكم} ، خلقكم أي أنشأكم من العدم ، وجعل من الطين إنسانا في الخلق وفي عبارة{ خلقكم} إشارة إلى إنشائه جنينا في بطن أمه من علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة ، كما قال تعالى:{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( 12 ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 ) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( 14 ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( 15 )} [ المؤمنون] .
وإن هذا الخلق بعده الوفاة يعيش ما يعيش إن طويلا ، وإن قصيرا والمآل الوفاة ؛ ولذا قال تعالى:{ ثم يتوفاكم} ،{ ثم} هنا للتفاوت بين الموت والحياة ، ومنكم من يموت في صباه أو في شبابه أو كهولته ،{ ومنكم من يرد على أرذل العمر} ، ومعنى الرد على أرذل العمر أن يرجع منكوسا إلى ابتدائه ، فهو في أرذل العمر يسير في السن إلى الأمام ، ولكن في القوى يرد إلى الوراء فقواه تضعف ، وتفنى بعض أجزاء جسمه شيئا فشيئا ، كأنه من قبل الهرم كانت قواه تسير على الأمام حتى تقف ، فإذا أرذل العمر أي أخسه وأعدم حمده يرجع إلى الصبا الذي لا يعلم شيئا .
قال تعالى:{ لكي لا يعلم بعد علم شيئا} ، أي لتصير حاله ألا يعلم ، بل ينسى ، وأن يكون كل ما يعلمه من جديد مآله النسيان ، فلا يزداد علمه ، بعد أن كان عالما شيئا ، وقد لوحظ أن الذين يصيبهم أرذل يصيبهم أرذل العمر ينسون ما كسبوه من علم بعد الشيخوخة ولا ينسون ما كان لهم من حوادث قبل ذلك ، فهم يتكلمون عن الماضي ولا يتذكرون ما كان من حوادث بعد أن تصيبهم الشيخوخة ، ونلاحظ هنا أمرين:
الأمر الأول – أن أرذل العمر يختلف باختلاف الناس ، فمنهم من يصيبه الهرم مبكرا ، ومنهم من لا يصيبه إلا مؤخرا .
الأمر الثاني – أن بعضهم يصيبه خرف الشيخوخة ، والصادقون المؤمنون لا يصيبهم خرف الشيخوخة ، وإن كانوا ينسون ، ومهما يكن فإن الموت قبل بلوغ أرذل العمر أفضل ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ألا يرد إلى أرذل العمر ، فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو "أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر"{[1388]} ، وإن ذلك كله بتقدير الله تعالى وعلمه ؛ ولذا قال بعد ذلك:{ إن الله عليم قدري} إن الله بمقتضى علمه قدر كل شيء ونفذه ، وهو القادر العليم .