قوله تعالى:{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( 70 )} ،بهذه الآية القصيرة في كلماتها المؤثرة المعدودة يبين الله حال الإنسان بدءا بنشأته ،وانتهاءً بموته ورحيله إلى الدار الآخرة ،وما بين البداية والنهاية من مختلف المراحل المتطورة من حال إلى حال .فأول ذلك الاجتنان في الأرحام .ثم الرضاع في مطلع الحياة للإنسان ،ثم الفتوة والمراهقة ،ثم الشباب واكتمال القوة في الأجساد ،ثم الاكتهال والشيخوخة ،ثم الهرم والسن الطاعنة والازدلاف من الموت .وذلك كله في قوله تعالى: ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ) ،وما بين الخلق والوفاة تتفاوت الأعمار والآجال والأقدار بين الناس ؛فمنهم من يتوفاه الله صغيرا ،ومنهم من يتوفاه شابا ،ومنهم من يمتد به العمر إلى أخسه .وفي ذلك يقول سبحانه: ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) ،أي: آخر العمر الذي تفسد فيه الحواس ،ويضعف العقل ،ويأتي عليه الخرف والخلل .وكذا البدن بمختلف أعضائه وأجزائه يصيبه الضعف والتلف والهرم مما ينذر بدنو الأجل .
قوله: ( لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) ،اللام في ( لكي لا ): لام التعليل ،وكي مصدرية ،وهي ناصبة للفعل بعدها .والمصدر المؤول من كي والفعل مجرور باللام ،وقيل: اللام لام كي ،وكي للتأكيد .وفي هذا نظر .وثمة وجه على أن اللام لام الصيرورة والعاقبة .و ( شيئا ) ،منصوب المصدر ( علم ) ،وقيل: منصوب بالفعل ( يعلم ){[2566]} ؛أي: يؤول أمره من حال العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا .والمراد بذلك: قلة علمه وشدة نسيانه ،فإذا علم شيئا لم يلبث أن ينساه سريعا .
قوله: ( إن الله عليم قدير ) ،الله يعلم كل شيء مما يجري أو يدور في الكون من أشياء وحوادث .ومن جملة ذلك: الخلق والإماتة ،سواء في الصغر أو الشباب أو الكبر ،أو الرد إلى أخسّ العمر حيث الهرم والخرف والتلف والاهتراء ،ثم إماتة الصغير قبل الكبير ،أو العظيم قبل الحقير ،أو العالم قبل الجاهل ،أو المؤمن التقي قبل الفاسق الموغل في العصيان ؛فكل ذلك بعلم الله وحكمته البالغة التي لا نعلم منها إلا ما علمنا إياه .وهو كذلك قدير على الخلق والتغيير والتحويل من حال إلى حال ،ومن طور إلى طور ،لا معقب لحكمه وتقديره{[2567]} .