ونرى من هذا أن الله تعالى فضل بعض الناس بما سلكوا من سبل الخير ، وعاقب بعض الناس بما سلكوا من الشر ، وكيف من طلب العاجلة أخذ منها بما يشاء ولمن يشاء ، ومن طلب الآخرة زاده في حرثه إن قصد الآخرة ، وسعى وآمن ، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} .
أمر من الله تعالى بأن ننظر نظرة تأمل في الحال التي فضل فيها بعض الناس على بعض في الرزق والمال ، وأن الله سبحانه يعطي في الدنيا كلا على حسب رغبته مع أن مشيئة الله فوق هذه الرغبة ، وأنه بهذا التمكين الرباني يكون من أعطاهم أفضل حالا من غيرهم فيكون من الناس الأغنياء والفقراء ، ويفضل بعضهم على بعض في الرزق من غير أن يتبع تفضيل في الشرف أمر أو أية تفرقة طبقية ، فالناس عند الله سواء وأمام شرعه سواء ، ولا فضل لغني على فقير ،{ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء . . .( 71 )} [ النحل] .
وإن ذلك الذي أشار إليه في الدنيا فقط ، أما في الآخرة فطالبوها{ أكبر درجات وأكبر تفضيلا} والمعنى أن الذين أرادوا حرث الآخرة ، فقصدوها مخلصين ، وسعوا لها سعيها مؤمنين أكبر درجات أي أعلى وأسبق وهم في درجات عليا ، وكلمة درجات لا تكون إلا في العلو والشرف الرباني ، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى:{. . .نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا . . .( 32 )} [ الزخرف] ، أي في الحياة الآخرة .
وقال{ أكبر تفضيلا} أفعل التفضيل ليس على بابه فلا موازنة في كثرة الفضل ، بل المراد أنه يلقون من الفضل كثرة ليس وراءه فضل لمستزيد ، ونفينا المقابلة ؛ لأن طلاب العاجلة لا فضل عندهم ، لا بقدر قليل ، ولا بقدر كبير ، بل هم يوم القيامة في العذاب الهون ، والمنزلة الدون .
والاستفهام في{ كيف} للتنبيه ، وتقرير تلك الحقائق الثابتة .