{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزق من خلال الخصائص التي أودعها الله فيهم وميّزهم بها ،من قدرةٍ في الفكر والقوّة والحركة والظروف المحيطة بهم ،فإن الحياة لا يمكن أن تنمو وتتنوّع وتتطوّر إلا باختلاف مواقع الإنسان وتنوُّع درجاته ،لتتكامل في خصائص القوة التي تتوزّع على الأشياء والأشخاص ،فيعطي هذا من قوّته للاخر ،وتتفاعل خصائص هذا بخصائص ذاك .ومن هنا نستطيع أن نقرر الفكرة التي تقول: إن التفضيل في الدرجات في الحياة لا ينطلق من تفضيلٍ في القيمة ،ليعيش الإنسان الذي يملك الدرجة العليا الإحساس بأن ذلك تكريمٌ من الله له ،ويعيش الإنسان الذي يقف في الدرجة السفلى الإحساس بأن ذلك تحقيرٌ من الله له ،فإن هذا الشعور لدى هذا أو ذاك ليس دقيقاً ،فقد يكون صاحب الدرجة السفلى في الرزق أقرب إلى الله من صاحب الدرجة العليا ،بل ينطلق التفضيل من الحكمة الإلهية في توزيع حاجات الحياة على الناس والمواقع والأشياء وفق الخصائص الذاتية التي تتميز بها الموجودات .وبذلك يكون حال الإنسان المتميز في النعم التي يغدقها الله عليه ،كحال الأرض المتميّزة بالخصب ،والشجرة الحافلة بالشهيّ من الثمر .ولو أنّ الله أعطى الناس ما يستحقونه ،لاختل نظام الحياة التي لا يمكن أن تجتمع حاجاتها وخصوصياتها في موقعٍ واحدٍ أو في مواقع محدودة ،لأن المطلق لا يمكن أن يتحقق في المحدود .
وخلاصة الفكرة ،أن التفاضل في درجات الحياة لا يعني إعطاء الامتيازات لأفرادٍ معينين أو جماعاتٍ معينةٍ ،بل يعني توزيع الخصائص تبعاً لحاجات الحياة ،فهي تابعة لحاجة الواقع ،لا لقيمة الذات .وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة التي تعلل التفاضل في الدرجات في بعض مواقعه بقوله تعالى:{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [ الزخرف:32] .
الآخرة أكبر درجات
{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} لأنها تتميز عن الدنيا بالأجواء الواسعة الممتدّة بما يشبه المطلق الذي جاء في بعض الحديث عن ملامحه في القرآن{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [ السجدة:17] وفي الحديث المأثور عن الجنة أن فيها «بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » ...إنها الموقع الإلهي الذي يتجلى فيه تكريم الله للإنسان المؤمن العامل ،جزاءً على إخلاصه في إيمانه وعمله ،عندما ينفذ الله وعده للمؤمنين الصالحين بالثواب العظيم .
وإذا كان الأمر يتعلق بتكريم للإنسان ،فإن من الطبيعي أن تختلف درجات التكريم تبعاً لاختلاف درجات الإيمان والعمل ،لأن{أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة:78] مما يوحي بأن الخير هناك تابعٌ لحجم العمل في الكمية والنوعية هنا .وهذا هو الذي تختلف فيه درجات الآخرة عن درجات الدنيا في مقياس التفضيل ،فإن التفضيل في الدنيا تابعٌ لحاجات الحياة في عملية توزيع الأرزاق والخصائص على الأشخاص والأشياء ،بينما هو في الآخرة تابعٌ لعمل الإنسان المؤمن الذي يستمد قوّته من الرحمة الإلهية في روح الإنسان المؤمن وحياته ..