قد أمر الله تعالى بعبادته وحده ، وهو مقتضى ألا يجعل مع الله إلها آخر ، فإن كان النهي سلبيا في الآية السابقة فالأمر هنا إيجابي ، و{ قضى} هنا بمعنى حكم ، وحكم الله تعالى لا يحتاج إلى إبرام مبرم ، ولا يتطاول إليه نقض ناقض سبحانه وتعالى .
{ ألا تعبدوا إلا إياه} هنا باء محذوفة ، دل عليها دخولها بعد ذلك في قوله تعالى:{ وبالوالدين إحسانا} وهي معطوفة على{ ألا تعبدوا إلا إياه} والمعنى حكم الله تعالى حكما دائما ثابتا بأدلته القاطعة ، وآياته البينة بألا تعبدوا إلا إياه فلا يصح عبادة غيره ، وهي إذا كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فالحكم عام خوطب به الناس أجمعون ، وأسند الحكم إلى{ ربك} ؛ لأنه الخالق المنشئ المربى الذي خلقه وربه ، وهو الذي أنزل الآيات ، فذكر الرب ليكون الحكم مشتملا على أسبابه ، وبعد أن حكم حكما تسجله كل الآيات في الوجود بألا يعبد إلا الله أعقبه بما يدخل في مضمونه ، وهو الإحسان إلى الوالدين ، ونجد دائما النهي عن الإشراك يقترن به دائما الإحسان إلى الوالدين فيقول سبحانه وتعالى مثلا:{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا . . .( 151 )} [ الأنعام] ، وقوله تعالى:{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا . . .( 36 )} [ النساء] ، وذلك كثير والحمد لله .
وكأنه في هذا يقرن حق الله تعالى الخالق بديع السموات والأرض ، بالمنشئ نسبيا بإذن الله ، وهما الأبوان ، والإحسان إلى الأبوين ليس هو كفالتهما ، وإمدادهما بما يحتاجان إليه فقط ، بل هو أعمق من ذلك في القول والعمل والحيطة بهما ، ولعل أجمع تعبير عن ذلك هو تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الصحبة ، فقد سأله بعض الصحابة من أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله ؟ قال:"أمك"قال:ثم من ؟ قال:"أمك"قال:ثم من ؟ ، قال:"أمك"، قال:ثم من ؟ قال:"أبوك"{[1417]} وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى:{ وبالوالدين إحسانا} لمزيد الاهتمام بهما ولإثبات أنهما أولى من دون الناس بالإحسان ، فلا يكون الرجل كريما مفاخرا بالعطاء بين الناس ، ولا يحسن إلى أبويه .
وقوله:{ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} ( إما ) هي إن المؤكدة بما ، والتي يبلغ في تأكيد التعليق مبلغ القسم ، ولذا تدخل معها نون التوكيد الثقيلة ،
ولا تكون كذلك من غيرها ، و{ أحدهما} فاعل يبلغن ، أو كلاهما معطوفة على أحدهما ، والمعنى إن يبلغن عندك الكبر واحد منهما أو الاثنان فلا تقل لهما أف .
والتوكيد في بلوغ الكبر ، ذكر لحالهما الضعيفة التي تقتضي الرعاية والإكرام في القول والعمل ، وقوله تعالى:{ عندك} للدلالة على أنهما لجآ إليه لضعفهما ولشيخوختهما يعيشان في كنفه وظل قوته ، ونعمته يرعاها ، ولا ظل لهما غير ظله ، وقد تكون هذه الحياة المستمرة ، مع ضعف الشيخوخة ، واستقذار بعض ما يكون منهما أو من أحدهما داعيا لبعض الضجر ، فتتفلت منه عبارات تضجر أو تأفف ، فنهاه سبحانه وتعالى عن مثل هذا فقال:{ فلا تقل لهما أف} وهو صوت يصدر عن الإنسان منهيا عنه ، فغيره أولى ، ولذا أردفه بقوله:{ ولا تنهرهما} بأن يلومهما عن بعض ما يقع منهما ، فإن ذلك منهى عنه ، وذلك لأنهما تضعف مسئوليتهما لضعفهما في كل قوامها ، وقال بعض العلماء:إن معنى النهر هو النهي ، فهما من مادة واحدة ، وكأنه لا يتضجر منهما ولا ينهاهما ؛ لأن النهي فيه منافاة لحسن الصحبة ، فإن كان منهما ما يوجب النهي لا ينهى ، بل يتلطف في القول منبها إلى ما يريد من غير مصارحة بالنهي ، ولذا قال:{ وقل لهما قولا كريما} بدل التأفف والنهي والنهر ، والقول الكريم:هو القول الجميل الذي يكون فيه تنبيه إلى ما يجب من غير أن يظهر من التضجر أو التأفف أو النهر أو النهي ، أو اللوم فإنهما قد بلغا سنا علت بهما عن التأديب والنهي . والنهر واللوم من أعمال التربية والتهذيب ، ولا يليق بهما ذلك ، بل يوطئ كنفه في الفعل والقول ، ويصح الاستعاضة في التنبيه بالإشارة عن العبارة ، وألا يتكلم بما يرضيها .