{تَنْهَرْهُمَا}: تزجرهما بغلظة .
الطاعة لله وحده
وهذا فصلٌ جديدٌ من السورة ،يتحرك في خط المنهج الأقوم في المبادىء الأخلاقية العامة التي يريد الله لها أن تحدد للإنسان القاعدة العملية التي تركز شخصيته على أساسٍ ثابتٍ في علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين ،ليواجه الحياة من خلال حدود الله التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها .
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} هذا هو الخط الأول الذي يمثل القاعدة العامة التي تتفرع منها كل الخطوط ،وهو توحيد العبادة لله ،من خلال ما تمثله من الخضوع والطاعة والاستسلام لأوامره ونواهيه في كل شيء ،ومن التمرد على كل الإرادات الأخرى التي تحاول أن تثير في داخله روح الخضوع للطغاة والمستكبرين والشهوات والنزوات التي تجري في حياته مجرى الدم في العروق ،وبذلك يواجه الإنسان الأشياء والأعمال والعلاقات من هذا الموقع الذي يضع الحد الفاصل بين طاعة الله ومعصيته ،فيتحرك مع الطاعة لله ،لأنها التجسيد العملي الحيّ للعبادة ،ويتمرّد على معصية الله ،لأنها المظهر الواقعي للانحراف عن العبادة التوحيدية .
مبادىء التعاطي الأخلاقي مع الوالدين
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهذا هو الخط العملي الثاني الذي يثير في الإنسان الإحساس به ،عندما يستشعر الإحساس بالله ،فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجوده ،فإن الوالدين يمثلان السبب المباشر لهذا الوجود ،وإذا كان الله هو الذي أنعم عليه بكل النعم التي جعلت لحياته قوّةً واستمراراً ،فإن الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهدٍ ومعاناةٍ وتضحيةٍ في سبيل تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده .وهكذا أراد الله للإنسان أن يعي هذه الحقيقة في علاقته بهما ،ويوحي لنفسه بالسر العميق الكامن وراء ذلك ،والمتجلِّي في ما أودعه الله في قلبيهما من الشعور بالعاطفة والرحمة اللتين تتميزان بالعطاء دون مقابل ،فيعانيان الألم والتعب من أجل أن تتكامل حياة ولدهما وتلتذ وترتاح ،بكل روحٍ طيّبةٍ معطاء .
وهكذا أراد له أن يحسن إليهما بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة ،وبالاحتضان الروحي الذي يحسان به عميقاً ،كاحتضانهما له في طفولته وما ينطوي عليه من عاطفة وحب وحنان .
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} فتقدّم السنّ يؤدّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق ،وضيق الصدر ،ما ينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانباً سلبياً ضد الناس الذين يعيشون معهما ،لا سيما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك ،فيحدثبسببهردّ فعل سلبيٍّ تجاههما ،ما يوجب صدور الإساءة منهم إليهما ،لأن القوي عادةً يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه ،وبذلك نفهم أن الكبر ليس له خصوصيةٌ في ذاته ،بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرفاتٍ تؤدي إلى ردود فعلٍ سلبيةٍ من قبل الولد .
{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} في عملية رد فعلٍ للشعور بالضيق النفسي من تصرفاتهما ،كمظهرٍ من مظاهر التعبير عن الأفعال في أقلِّ نماذجه ،فإذا لم يجز ذلك ،فلا يجوز ما هو أشد منه ،لأن الأساس هو حرمة الإيذاء ،فيحرم الأقوى في الإيذاء إذا كان الأضعف محرماً .وقد جاء في كلمات أهل البيت عن الإمام جعفر الصادق( ع ) أنه قال: «لو علم الله لفظةً أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها » .{وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي{وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة .