{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} وذلك يمثل التواضع والخضوع قولاً وفعلاً برَّاً بهما وشفقةً عليهما ،كما يخفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه ،فكأنهسبحانهقال: ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير ،وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين ،بل لا بد له من أن يشعر بالذل الناشىء من الشعور بالرحمة لهما ،لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي ،كما يخضع الإنسان لمن يحبه حباً له ورحمةً به ،فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره ،ويتنازل له عمّا لا يتنازل عنه للآخرين ،ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ .إنها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة ،فتهفو وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبة والسماح ،وتعرف كيف تميز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذلّ أمام الآخرين ،فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالمحبة والرحمة بالشعور الطاهر الخيِّر نفسه ،لتستمر حركة الإنسانية نحو العطاء ،من خلال مواجهتها بالاعتراف الحيّ بالجميل ،بالمشاعر التي تحفظ لها كل ما عملته من الخير .
{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ويتحول هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لأبويه معه ،كيف كانا يتعبان ليرتاح ،ويجوعان ليشبع ،ويسهران لينام ،ويتألمان ليلتذ ،ويضحّيان بكل حياتهما من أجل أن يربيا له جسمه وعقله ،وكيف كانا يحتضنانه بالعطف والحنان ،ويحفظانه من كل سوء ،ليأخذ القوة من ذلك كله .وتتجسّد كل هذه الذكريات في عقله ووجدانه وشعوره وحسّه ،فتنفتح روحه بالحنان ،وهو يشهد هذا الضعف الذي يرزحان تحته ويعانيان منه ،ويستذكر أنه كان أحد أسباب ذلك ،فيبتهل إلى الله في دعاءٍ خاشعٍ ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما ،لأنهما كانا يعيشان الرحمة له ،ويعانيان الجهد في تربيته ،لأن الله قادرٌ على ما لا يقدر عليه من ذلك ،فرحمته تملك خير الدنيا والآخرة ،بينما لا يملكهومن ذلك شيئاً .
حدود طاعة الوالدين
وهكذا نجد أن الله يريد أن يعمِّق الشعور الإنساني في نفس الولد تجاه أبويه بالرحمة والمحبة والإحسان ،ليشعرا بأن هذا الجهد الذي بذلاه لم يذهب سدىً ،فهناك نوعٌ من التعويض الروحي قد حصلا عليه .وعلى ضوء ذلك ،فإن الطاعة التي يريدها الإسلام في طاعة الولد للوالدين ،هي طاعة الإحسان والشفقة وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما ،كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر .فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه ،أو بما فيه المفسدة في ذلك ،فلا يجب عليه إطاعتهما ،ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بكثيرٍ من المرونة في الجوّ والأسلوب عند إرادة المعصية .
منهج الاجتهاد في القرآن والسنة
وقد يستوحي الإنسان من كثير من النصوص ،أن عليه أن يستجيب لهما في الأمور التي يريدانها منه ،حتى إذا كانت على خلاف مزاجه ،أو على خلاف مصلحته ،في ما لا يتضمن ترك واجب أو فعل حرام ،كما كانا يفعلان عندما كانا يقدّمان مصلحته على مصلحتهما ..وهذا ورد في كلمات بعض أئمة أهل البيت ( ع ): «وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ...» ولكن ذلك لا يوحي بالإلزام الشرعي ،بل بما يشبه الاعتراف بالجميل في أجواء الاستحباب ،انسجاماً مع خط الإحسان الذي اعتبره القرآن عنواناً لعلاقة الولد بوالديه .ولهذا رأى الفقهاء في الحديث النبوي المأثور: «أنت ومالك لأبيك » الذي خاطب به رسول الله( ص ) أحد صحابته ،تأكيداً لعمق العلاقة ،بالمستوى الذي يعيش فيه الشعور بأن وجوده إذا كان منطلقاً في طبيعته من وجود أبيه ،فمن الطبيعي أن يكون كل شيء تابعاً له ،فلا ينبغي له أن يشعر بالاستقلال في كل شيءٍ ،كما هو شأن الفرع مع الأصل .على أن ما ورد ليس شريعةً قانونيةً تستعبد الولد وتجعل ماله ملكاً شخصياً للوالد ،لأن أجواء الحديث لا توحي بذلك ،كما أن الأسلوب القرآني لا ينسجم معه .
وفي رأينا ،أن منهج الاجتهاد الفقهي يرتكز على أساس اعتبار العنوان الموجود في القرآن في بعض الموضوعات قاعدةً للأحكام الشرعية التفصيلية التي تتضمنها السنّة الشريفة ،باعتبار أن السنّة جاءت تفصيلاً لما أجمله القرآن وتفريعاً لما فصّله ،فهو الذي يعطي الفكرة العامة والعنوان الشامل ،وهي التي تحركه في المفردات الجزئية للحياة .ولذا ،فإن من المفروض دراسة النص القرآني في مدلوله العام ،قبل دراسة السنة في مورده .ونأمل مناقشة هذا المنهج وتفصيله في الدراسات الفقهية الاجتهادية .