وإن الحياة واستمرارها في بيته قد توقعهما في شيء من ذلك ، فلا بد أن يدرع بدرع يكون وقاية له من أن يقع في شيء من هذا ، والدرع هو أن يملأ نفسه برحمتهما ، وعين الرحمة عاطفة ، ولا تكون لائمة أبدا ولا تكون متأففة ، ولا متضجرة أبدا ، ولذا قال تعالى:
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 )} .
الجناح هنا هو الحياطة والرعاية ، وشبهت هذه المعاني بالجناح الذي يكون له قوة الطائر ، وإضافة الذل إليه لتكون الرعاية ذلا لهما ، وتواضعا من غير استكبار ، وإن ذلك التطامن والانكسار من الرحمة لا من الذلة ، وكان خفض جناح من ذل ، لا من الذلة ، بل من الرحمة ، وفرق بين ذل الرحمة ، فهو عطف ورفق وتطامن ، وذل الاستخذاء والمذلة ، فهو ذل خنوع ، وضعف من غير قوة ، وإن هذا التعبير أعلى ما يمكن من تعبير العطف والرحمة ، ولكنه كلام الرحمن الرحيم ، وإن الله تعالى طلب من عبده أن يقول داعيا لهما بالرحمة في كبرهما ، فيقول تعالى:{ قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} ، أي إنك لا تملك أن تصنع لهما ما صنعاه وأنت صغير ، فقد حدبا عليك في محبة يريدان بقائك وأنت لا تملك هذا فتملك ما يقبله الله منك ، وهو الكريم اللطيف الخبير ، وهو الدعاء لهما بالرحمة مخلصا طيب النفس راضيا لعشرتهما مهما تكن حالهما من ضعف .
ولقد كتب الزمخشري صفحة في إكرام الأبوين ننقلها بحروفها لجمال لفظهما ، وكريم معناها – يقول صلى الله عليه وسلم:"ولقد كرر الله تعالى في كتابه الوصية بالوالدين ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم "رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما"{[1418]} ، وروى "يفعل البار بوالديه ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة"{[1419]} ، وروى سعيد بن المسيب أن البار لا يموت ميتة سوء ، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:"إن أبوي بلغا من الكبر أن ألى منهما ما توليا مني في الصغر فهل قضيتهما ؟"قال:"لا ، إنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما"{[1420]} .
وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به ، فإذا شيخ يتوكأ على عصا ، فسأله فقال:إنه كان ضعيفا وأنا قوى ، وفقيرا وأنت غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي ، واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غني ، ويبخل علي بماله ، فبكى سول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال:"ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى"، ثم قال للولد:"أنت ومالك لأبيك ، أنت ومالك لأبيك"{[1421]} ، وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال صلى الله عليه وسلم:"لم تكن سيئة الخلق حيث حملتك تسعة أشهر"، قال:إنها سيئة الخلق ، قال الرسول الكريم:"لم تكن كذلك حتى أرضعتك حولين"، قال:إنها سيئة الخلق ، قال الرسول الكريم:"لم تكن كذلك حتى سهرت لك ليلها ، وأظمأت نهارها"، قال:لقد جازيتها . قال:"ما فعلت ؟"قال:حججت بها على عاتقي ، قال صلى الله عليه وسلم:"ما جزيتها". انتهى كلام الزمخشري في الكشاف .
وقال صلى الله عليه وسلم:"إياكم وعقوق الوالدين ، فإن الجنة توجد ريحها مسيرة ألف عام ، ولا يجد ريحها ، لا عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ، ولا حار إزاره . . ."{[1422]} .