وأن بر الأبوين أمر مستتر خفى يظهر في العمل ، فهو إخلاص وفاء وإيمان بالحق ، ووفاء وإكرام ، وهو دليل على صلاح النفوس ، وقد قال تعالى:
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ( 25 )} .
إن الله سبحانه وتعالى نهى عن أمور ، نهى عن التضجر ، وعن النهي لهما عن أي عمل ، وأمر بأن يقول لهما قولا كريما وربما يكون فيهما المسئ وربما يكون منهما الظالم ، فبين الله سبحانه في هذا المقام وغيره مما يشابهه ، فقال سبحانه وتعالى:إن الاعتماد على النفوس ، وصلاحها ، والله تعالى يغفر هنات الأفعال ، وما لا تقصد فيه ، ولا يعمد فيه إلى الشر مقصودا ، وإنما يحاسب على ما تكسبه النفس ويريد به القلب ، ولذا قال:{ ربكم أعلم بما في نفوسكم} وأفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه لا مفاضلة بين علمه سبحانه وعلم غيره ، فلا يعلم خفى النفوس إلا خالقها الرقيب على كل شيء ، العالم بكل شيء ، وإنما المراد من أفعل التفضيل أنه سبحانه عالم بالنفوس علما لا يصل إليه علم قط .
وإذا كان يعلم النفوس ، فهو يعلم ما تكسبه النفس ، وتسوء به النية ويسود به القلب ، ويعلم ما لا يقصد سوءا ، وليس فيه إساءة إلا أن تجئ عفوا من إيراد الشر ، ولا نية ،
وصدر الكلام بقوله:{ ربكم} للدلالة على علمه الدقيق ؛ لأنه هو الذي خلق وأبدع ، وربى ونمى ،{ إن تكونوا صالحين} إن تكونوا في ذات أنفسكم صالحين بقلوبكم وأنفسكم ، فإن الله كان للأوابين غفورا ، والصالح هو المستقيم النفس ، المملوءة نفسه بالإخلاص ، والطاهر القلب ، فالاستقامة هي الصلاح كله والاستقامة تقتضي النية المخلصة والنفس النيرة ، سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشده إلى كلمة يقولها فتهديه ، فقال له صلى الله عليه وسلم:"قل آمنت بالله ثم استقم"{[1423]} .
وجواب الشرط{ إن تكونوا صالحين} هو كما أشرنا قولها تعالى:{ فإنه كان للأوابين غفورا} الأواب هو الذي يرجع إلى الحق دائما ، فإن ضل عن الطريق آب إليه ، وإذا ابتعد قليلا عن العمل الصالح آب إليه ، لا يركس نفسه في شر أبدا ، وبذلك يكون سريع التوبة لا يعصى ، ولا تريد نفسه معصية ، فإن المعصية إذا عرضت على النفس نكتت نكتة سوداء ، فإذا تكررت أربد القلب ، فالأواب التواب لا تنكت في قلبه نكته سوداء ، فيتوب ، فيغفر له الله ، وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة ، فقال:{ فإنه كان للأوابين غفورا} وقد أكد ذلك سبحانه بإن وبكان ، وبصيغة المبالغة ، كما قال تعالى:{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 82 )} [ طه] .