قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله:{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ،وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما .وفي الحديث"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ،وعلم بثه في صدور الرجال ،وولد صالح يدعو له بخير"
وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه .والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه .
وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله:{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}[ التوبة: 113] الآية .
والكاف في قوله:{ كما ربياني صغيراً} للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ،ومثاله قوله تعالى:{ واذكروه كما هداكم}[ البقرة: 198] ،أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا .
و{ صغيراً} حال من ياء المتكلم .
والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ،وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله:{ كما ربياني صغيراً} قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما .فالتربية تكملة للوجود ،وهي وحدها تقتضي الشكر عليها .والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ،فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة .
والأمر يقتضي الوجوب .وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله .وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل .
ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين:
أحدهما: نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ،وهو الشكر ،تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ،فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة .
وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها .
والمقصد الثاني عمراني ،وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ،وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ،ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن .ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ،وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .
جاء في الحديث: «أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة .فقال الله: أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» وفي الحديث: «إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم» .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً ،وفي اتحاد بعضهم مع بعض ،قال تعالى:{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}[ الحجرات: 13] .
وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف .وقد بينا ذلك في بابه من « كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية » .