قوله تعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} .
لأن معنى قوله{إِمَّا يَبْلُغَنَّ} الآية: أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف .ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل ؛فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل ،إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم .ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنساناً والمراد بالخطاب غيره .ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز ،وهو سهل بن مالك الفزاري:
إياك أعني واسمعي يا جاره
وسبب هذا المثل: أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائباً ؛فأنزلته أخته وأكرمته ،وكانت جميلة ؛فأعجبه جمالها ،فقال مخاطباً لأخرى غيرها ليسمعها هي:
يا أخت خير البدو والحضارة ***كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره ***إياك أعني واسمعي يا جاره
ففهمت المرأة مراده ،وأجابته بقولها:
إني أقول يا فتى فزاره ***لا أبتغي الزوج ولا الدعاره
ولا فراق أهل هذي الحاره*** فارحل إلى أهلك باستحاره
والظاهر أن قولها «باستحارة » أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهماأي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك ،وهي كلامك وجوابي له ،ولا تحصل مني على غير ذلك !والهاء في «الاستحارة » عوض من العين الساقطة بالإعلال ؛كما هو معروف في فن الصرف .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله:{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ} [ الإسراء: 22] ونحو ذلك من الآياتمتوجه إلى المكلف .ومن أساليب اللغة العربية: إفراد الخطاب مع قصد التعميم .كقول طرفة بن العبد في معلقته:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا*** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال الفراء ،والكسائي ،والزمخشري: ومعنى قوله{فَتَقْعُدَ} أي تصير .وجعل الفراء منه قول الراجز:
لا يقنع الجارية الخضاب*** ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب*** ويقعد الأير له لعاب
أي يصير له لعاب .
وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها ؛بمعنى صار .قاله أبو حيان في البحر .
ثم قال أيضاً: والقعود هنا عبارة عن المكث ،أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً .كما تقول لمن سأل عن حال شخص: هو قاعد في أسوإ حال .ومعناه ماكث ومقيم ؛سواء كان قائماً أم جالساً .وقد يراد القعود حقيقة ؛لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً ،وعبر بغالب حاله وهو القعود .وقيل: معنى{فَتَقْعُدَ} فتعجز .والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم اه محل الغرض من كلام أبي حيان .
والمذموم هنا: هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس .حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر ،ولا يقدر على شيء .
والمخذول: هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر .ومنه قوله:
إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ***ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا
قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [ 23] .
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده ،وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين .
وجعله بر الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر ؛كقوله في سورة «النساء »:{وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [ النساء: 36] الآية ،وقوله في البقرة:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْراءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [ البقرة: 83] الآية ،وقوله في سورة لقمان:{أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ} [ لقمان: 14] ،وبين في موضوع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما ؛كقوله في «لقمان »:{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [ لقمان: 15] ،وقوله في «العنكبوت »:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} [ العنكبوت: 8] الآية .
وذكره جل وعلا في هذه الآيات: بر الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته ،يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين .وجاءت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة .
وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} بينه بقوله تعالى:{إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [ الإسراء: 23-24] لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات .وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح ،وإضافته إلى الذل في سورة «الشعراء » وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة «منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز » .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَقَضَى رَبُّكَ} معناه: أمر وألزم ،وأوجب ووصى ألا تعبدوا إلا إياه .
وقال الزمخشري:{وَقَضَى رَبُّكَ} أي أمر أمراً مقطوعاً به .واختار أبو حيان في «البحر المحيط » أن إعراب قوله{إِحْسَاناً} أنه مصدر نائب عن فعله ؛فهو بمعنى الأمر ،وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف ؛كقوله:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ***يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقال الزمخشري في الكشاف:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً .أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً .