الرسالة لا تكون إلا من البشر
إن المشركين لم يكونوا يطلبون حجة غير القرآن لنقص في الحجة إنما في إدراكهم وعمى في قلوبهم ، إنما يعنتون بما يطلبون ، ولقد قال تعالى:{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 )} [ الأنعام] ، ولقد قال تعالى:{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( 14 ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( 15 )} [ الحجر] .
ولقد رأينا منهم من يقول:لو جاء ما نطلب ما ظننا إننا نؤمن ، إنما الداء الذي أمرض نفوسهم هو استبعادهم أن يبعث الله تعالى رسوله من البشر ، ولذا قال تعالى:
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( 94 )} .
كان الوحي قد غاب عن العرب أمدا طويلا بعد إبراهيم وإسماعيل ولوط وصالح وهود ، فكانوا يجهلون النبوات ولا يعلمون الرسالات السماوية إلا ما بقى لهم من ملة إبراهيم أبيهم ، وقد كانت العصبية الجاهلية مسيطرة عليهم ، وقد جعلتهم أوزاعا متفرقين ، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم من أوسطهم نبيا بشيرا ونذيرا ، فاستغل الذين ينافسون بني هاشم الشرف وينافسون بني عبد مناف الشرف ذلك الاستغراب أن يكون من البشر رسول وآثاروها به عليهم .
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( 94 )} .
أي ما منع الناس الإيمان أن يدخل قلوبهم ، ف ( أن ) وفعلها ينسبك منهما مصدر هو المفعول الثاني ، و ( الناس ) المفعول الأول ، والفاعل ( أن ) التي بعد ( إلا ) وفعلها هو قولهم ، ومعنى الكلام وما منع الناس الإيمان إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي ما منع الناس الإيمان إلا قولهم لم يبعث الله بشرا رسولا ، وجاء على صورة الاستفهام لبيان معنى الاستغراب والتساؤل الذي أدى إلى النفي ، ويلاحظ هنا أمران:
الأمر الأول:قوله تعالى:{ إذ جاءهم الهدى} هذه إشارة إلى أنهم لا يؤمنون بالرسالة مع أنها تحمل في نفسها دليلها ؛ لأنها هادية مرشدة مقنعة مع ما تقتضيه أحكام العقول ومكارم الأخلاق .
الأمر الثاني:أن نفيهم لأن يكون البشر رسولا إنما هو قولهم لا حقيقة أمرهم ، فهم لا يؤمنون بألا يكون البشر رسولا ولكنهم يقولونه قولا من غير برهان ولا إيمان .