ثم قال تعالى:
{ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( 97 )} .
بعد أن بين سبحانه أن شهادته كافية لصدق الرسول ، وصحة معجزته في الدلالة على نبوته ، أشار سبحانه إلى أنه قد قام الدليل ، وما بقي إلا أن يسير المهتدى في ضوئه ، ويتردى الضال في مهواة الضلالة{ ومن يهد الله فهو المهتد} .
( الواو ) عاطفة جملة على جملة ، كانت الأولى بمثابة مقدمة الدليل للثانية ، ومعنى{ ومن يهد الله فهو المهتد} ، أي من اهتدى بنور الحق ، وسار في طريقه ، فهو المهتد حقا وصدقا وهو البالغ الكمال في الهداية ، والآخذ بالرشاد ، والسالك طريق النجاة ، وقد عبر عن هداية المهتدى بقوله تعالى:{ ومن يهد الله} ، أي من سلك سبيل الحق مستقيما فإن الله يهديه ، فهداية الله تعالى ليس معناها الإجبار على الهداية ، وإلا ما كان الجزاء الوفاق ، فإنه لا جزاء إلا مع الاختيار ، وإن المهتدى يكون مختارا في ابتداء السير ، ثم أخذه في النهاية إلى الطريق الموصل للغاية بلطف الله تعالى وتوفيقه ، ثم قال سبحانه:{ ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} الإضلال ليس معناه الإجبار على الضلال ، وإلا ما ساغ العقاب بعد الحساب ، وإما الإضلال معناه أن يسير الضال في طريق الضلال متبعا هواه وإغواء الشيطان ، فيصل إلى نهايته بتقدير الله تعالى وكتابته في سجل الضالين ، وقوله تعالى:{ فلن تجد لهم أولياء من دونه} ، أي أنصار غير الله من الآلهة التي كانوا يعبدونها أو غيرها ، إنما هم يهوون إهواء في طريق الضلال من غير منج منه .
والضمير يعود على معنى "من"، ومعنى ( من ) جمع ، وكان عود الضمير في{ ومن يهد الله} على لفظ ، وهو مفرد ومعناه جمع ، وإنما أعيد في حال الضلال على المعنى لتعدد الضلال وكثرته وتشعب مسالكه ، وأعيد على لفظ ( من ) في الهداية لتوحد طريقهما ، إذ يقول تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . .( 153 )} [ الأنعام] ، ولقلة المهديين بالنسبة لكثرة الضالين ، ولأن ( أل ) التي للجنس تدل على الكمال والعموم ، فهي مغنية عن لفظ الجمع .
وجواب الشرط يشير إلى أن أوثانهم لا تجديهم شيئا ، ولا يصلحون لأي ولاية ، ثم بين بعد ذلك عقاب الله تعالى{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فسرها بعض المفسرين بتقدير محذوف ، أي مسحوبين على وجوههم ؛ وذلك لأنهم يسحبون فعلا على وجوههم إذلالا لهم وهوانا بهم ، وإظهار لمقت الله تعالى عليهم ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم:أيسيرون على وجوههم ، فقال ما مؤداه:كما سيرهم على أرجلهم سيرهم على وجوههم{[1449]} ، ويصح أن يكون ذلك مجازا لإذلالهم وأنهم لا إرادة لهم في سير ، بل يدفعون دفعا إلى جهنم .
وقال بعض المفسرين:إن معنى{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} أنهم يسيرون منكسى الرءوس ، خائفين ، فالوجه يعبر به عن الذات ، وذلك معقول في ذاته ، ويستقيم عليه وعنى النص القرآني السامي .
ومعنى قوله:{ عميا وبكما وصما} أنهم يكونون في عماء من أمورهم ، ولا يسمعون ما تطيب به نقوسهم ، ولا يتكلمون بحجة فهم يصيبهم العمى والصم والبكم ، كما عموا عن الحق فلم يبصروه ، وعن الاستماع إليه ، وعن النطق .
ويقول البيضاوي ما تقر به أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ لهم سماعه ولا ينطقون بما يقبل منهم ؛ لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر ، وتصاموا عن استماع الحق ، وأبوا أن ينطقوا بالصدق"وقد نقله عن الكشاف ، وهذا كقوله تعالى:{ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( 72 )}
وقد بين سبحانه الغاية من حشرهم ، وهو أن يصلوا إلى مأواهم ، فقال{ مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} .
أي أنهم يسكنون جهنم ، والتعبير بالمأوى ، وهي عادة موضع القرار والاطمئنان فيه تهكم بهم لأن جهنم لا تكون موضع استقرار واطمئنان بل تكون موضع قلق وآلام .
وإن العذاب فيها مستمر ،{ كلما خبت} ،أي سكنت أو أطفئت لاستغراقها كل العظام ولحومهم{ زدناهم سعيرا} وبدلناهم جلودا غيرها ، كما قال تعالى:{. . .كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها . . .( 56 )} [ النساء] .