عناية الله بهم في رقودهم
إن الله الذي ألهمهم أن يأووا إلى الكهف فرارا بدينهم ، وخضوعا لأمره ألهمهم أيضا أن ينزلوا في كهف يحفظ أبدانهم من أن تمزّق جلودهم الشمس أو تغير ألوانهم ، ألهمهم أن ينزلوا ، وفتحته إلى الشمال فيجيء إليهم هواء الشمال العليل ، وينعش أجسامهم ويرطب أنفاسهم ، ولا تمسهم الشمس ولكن تدفئ الكهف من ورائه بمرورها من الشرق إلى الجنوب ، حتى تعود إلى الغرب ، وقد اجتازت ما وراء الكهف ، وإن الشمس تصيبهم بأشعتها الحمراء في الصباح في طرف من الكهف ، وتصيبهم بأشعتها الصفراء في طرف من الكهف أيضا في الغروب ، وخير الأشعة المنعشة للأجسام الحية تكون في حمرتها في الصباح ، واصفرارها في الغروب ، وهكذا هو قوله تعالى:
{ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا 17} .
أي أنها إذا طلعت تميل عن الكهف متجهة ناحية اليمين فلا تمسهم الشمس بل تميل عن الكهف ، لا ينالهم إلا شعاع قليل منها ، لا تلفحهم بسخونة ، بل يكون هادئا منيرا ، وتسير الشمس من وراء الكهف من جنوبه ، حتى تصل نازلة إلى الغروب ، مائلة إليه ، فتقرضهم على شمائلهم ، كما تزاورت لهم عن أيمانهم في الصباح ، ومعنى{ تقرضهم} ، أنها تتجاوز بهم قاطعة حتى تصل إلى شمالهم في الغروب ، وتقرضهم من القرض بمعنى القطع ، أي أنها تقطع جنوب الكهف حتى تصل إلى شماله ، والفارسي يقول:إنه من قرض الدراهم والدنانير ، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد ، ونرى في هذا تكلفا ، وخير القول أن تقول:إن معنى تقرضهم تعدل بهم وتتجاوزهم شيئا فشيئا حتى يتم الغروب ،{ وهم في فجوة} أي مكان متسع{ منه} .
{ ذلك من آيات الله} ، أي إن ذلك كله من آيات الله ، فإلهامهم الالتجاء إلى الكهف ، وإلى كهف مفتوح من الشمال ، وكون الشمس تميل إليه ولا تدخله ليحفظ الله أجسامهم من البلى والعفونة ، وكونهم أحياء ليكونوا حجة على أن الحياة بيد الله تعالى ، وهو مانحها ، يهبها لمن يشاء ، كل هذا من آيات الله ، وهي تبّصر الناس بالحق وتهدي إليه ، وإن الآيات البينات كثيرة هادية ، ولكن الناس عنها منصرفون{ من يهد الله فهو المهتد} ، أي من يسلك سبيل الحق يأخذ الله بيده ، ويهديه سواء الصراط ، وهو المهتدي حقا وصدقا ولا أحد يضله ،{ ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} ومن يسلك طريق الضلالة فإن الله تعالى يكتبه من الضالين ، ولن تجد له من يتولى أمره ويرشده إلى الصراط السوي .