وقد خاطبهم الله سبحانه وتعالى بالوحي والإلهام عندما كانت المفارقة الفكرية بينهم وبين قومهم ، واعتزالهم لهؤلاء الأقوام أن يجعلهم آية لمن بعدهم فألهمهم أن يأووا إلى الكهف ، ولذا قال تعالى:
{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا 16} .
لقد صاروا في عزلة فكرية ، ويخشى أن يغيروا تفكيرهم وقد أصروا على الإيمان إصرارا ، كما أصر قومهم على الشرك ، و{ إذ} ظرف متعلق بأووا ، وهو في معنى السببية لذلك الاقتران الزمني بجواب الأمر{ ينشر} .
هذا حديث نفوسهم ، وهو إلهام من الله بثلاثة أمور:
الأمر الأول:الإيواء إلى الكهف حيث يبتعدون عن أذى الجبارين .
الأمر الثاني:أنهم لقوة إيمانهم بالله أحسوا بأن الله تعالى لن يضيعهم أبدا ، بل إنه ينشر لهم من رحمته ، إذ يبسط لهم .
الأمر الثالث:أن قوة إيمانهم بالله جعلتهم يحسون بأنه سيجعل لهم مرفقا يرتفقون به في وسط الكهف الذي لا يأوي إليه الآدميون إلا فرارا من أقوامهم .
قال تعالى:{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} ، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم ، بل إن اعتزالكم عبادتهم هو السبب الجوهري ، والباعث على اعتزالهم فإيمانكم قدمتموه على القرابة والقومية ، وقوله:{ إلا الله} ، قال الزمخشري:استثناء متصل ، لأنهم كانوا يعبدون الله وغيره ، فالاعتزال كان لعبادتهم غير الله ، ويحتمل عنده أن يكون الاستثناء منقطعا ، وعندي أن خيرا من هذا ما قاله قتادة أن{ إلا} بمعنى( غير ) ، من غير تقحم في المتصل أو المنقطع ، ومن غير ادعاء لا دليل عليه ، وهو أنهم كانوا يعبدون مع الله غيره ، فإن ذلك يحتاج إلى سند تاريخي ، كما هو ثابت عند العرب .
وقوله تعالى:{ ينشر لكم ربكم من رحمته} ، مجزوم بجواب الأمر ، أي إن تأووا إلى الكهف فلا تخافوا جوعا ولا عطشا ولا عريا ، فإن الله واسع الرحمة ، يبسط لكم من رحمته وينشرها عليكم ، وشبه في هذه الرحمة السالفة بالثوب المبسوط ، الذي ينشر عليكم فيعمكم ويحفظكم ويستركم ، ويقول تعالى:{ لكم ربكم من رحمته} ، أي ينشره لأجلكم وهو من رحمته التي وسعت كل شيء .
{ ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} ، أي مكانا ترتفقون ، وتجدون فيه كل مرافقكم وحاجاتكم ، ويكون مطمئنا لكم ، ذلك ما جاشت به نفوسهم ، وقد كان لهم ما تصوروا وتمنوا ، فقد استراحوا من ملاحاة أقوامهم وطغيان حكامهم ، وكفل لهم نوما هادئا اطمأنوا واستغنوا عن حاجات الدنيا وأهلها ، وكان خير الله يمد به أولياءه ولا يضيعهم أبدا .