{ قيما} ، أي أنه مستقيم في ذاته كما أنه لم يعره اعوجاج في أي ناحية من نواحيه ، ولا أي معنى من معانيه وهو قيم على الكتب السابقة كلها ، لأنه مهيمن عليها يبين ما نسخ منها ، وما لم ينسخ ، وما كان فيه تحريف ، وما نسي ، وما بقى ، وهو قيم على مصالح الناس ، ودفع مفاسدها ، وقيام بنائها الصالح ، ومنظم الجماعات الإنسانية على قواعد الأخلاق والفضيلة ، وإبعاد المفاسد والرذائل .
وإذا كان لإقامة بناء اجتماعي سليم ، وليستقيم الناس في معاشهم ومعادهم ، فقيه بيان الأحكام التكليفية لهم وما يجب يوم القيامة ، فإن العصاة لا يستقيمون إلا إذا كان أمامهم عذاب يوم القيامة ، قال تعالى:{ لينذر بأسا شديدا من لدنه} ، أي أن نزوله بما فيه من أخبار البعث والنشور وبما فيه من أحكام تصلح الناس في عامة أمورهم ، كان لا بد أن ينذر بأسا شديدا ، والإنذار له مفعولان وهو هنا له مفعولان:أولهما محذوف مع تقديره في الكلام ، وهو( الناس ) ، وثانيهما موجود ، وهو{ بأسا شديدا} ، والمراد العذاب الموصوف بأنه بأس شديد ، فأطلق الوصف وأريد الموصوف ، وفسر بعض العلماء البأس بأنه العذاب العاجل الذي لا يتأخر لحظة عن ميقاته ، وهو آت لا محالة وكل آت فهو لا بد عاجل ، لا يتخلف أبدا .
وقوله تعالى:{ من لدنه} الضمير يعود على الله تعالى ، من عند الله تعالى ، وفي الحكم بأنه صادر عن الله تعالى آت من عنده إرهاب بهذا العذاب ، لأنه آت من عند الواحد القهار ، وبيان لشدته ، وتأكد وقوعه ، فلا مناص منه ، ولا سبيل للابتعاد عن وقوعه .
وكما أنه منذر لمن عصى ، فهو مبشر لمن أطاع ، فلا جدوى في الإنذار إن لم يكن معه تبشير ، لأنه يكون تحذيرا لمن يغوى وتبشيرا لمن يفعل الصالحات ، فهو تخويف وتشجيع وتحريض ، ولذا قال تعالى:{ ببشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا} التبشير الإخبار بما يسر ولا يضر ، وعبرنا بالموصول للإشارة إلى أن الصلة هي السبب في هذا الجزاء ، والصالحات هي الأعمال التي يقصد بها وجه الله ، وطلب الخير والنفع وأن تكون القلوب طيبة سليمة ، فهي التي تصلح بها الأعمال وهي التي بها تفسد ، ويلاحظ هنا أنه ذكر الأعمال الصالحة ولم يذكر الإيمان ، لأن مقدر لأنه أساس الخيرات ، ولأنه عمل القلوب فهو داخل في عمل الصالحات ، وذكر سبحانه الجزاء فقال:{ أجرا حسنا} ، تكرم الله تعالى فسمى الجزاء أجرا وكأنه ثمن لخير قدم مع أن الهداية من فضل الله ورحمته ، للإشارة إلى أن الله كريم حليم ، يمن الخير ويجازي عليه ، ووصف الأجر بأنه حسن ، أي أجر يستحسن ويحب ويرغب فيه ، ويطلب لأنه في مظهره حسن ، وفي حقيقته نعمة دائمة ، ولقاء الله ورضوان منه ، وهو أعظم ، وكل ذلك تشمله كلمة حسن .