وقوله في هذه الآية الكريمة:{قَيِّماً} أي مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ .وما ذكره هنا من كونه{قَيِّماً} لا ميل فيه ولا زيغبينه أيضاً في مواضع أخر ،كقوله{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ 1 رُسولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً 2 فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ 3} ،وقوله تعالى:{إِنَّ هذا القرآن يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ} الآية ،وقوله:{وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين 37} وقوله تعالى:{ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 111} وقوله{الم 1 ذلك الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ 2} ،وقوله{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1} وقوله:{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نشاء مِنْ عِبَادِنَا} إلى غير ذلك من الآيات .
وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى{قَيِّماً} هو قول الجمهور وهو الظاهر .وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1} لأنه قد يكون الشيء مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر .ولذا جمع تعالى ،بين نفي العوج وإثبات الاستقامة .وفي قوله «قيماً » وجهان آخران من التفسير:
الأولأن معنى كونه «قيماً » أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ،أي مهيمن عليها وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى:{وأنزلنا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} الآية .
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى:{إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بني إسرائيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 76} الآية .وقال:{قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صادقين 93} وقال{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جاءكم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية .
الوجه الثانيأن معنى كونه «قيماً »: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية .وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول .
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله «قيِّماً » فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب .وأن في الآية تقديماً وتأخيراً ،وتقريره على هذا: أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيماً ولم يجعل له عوجاً .ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلاً: إن قوله{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1} معطوف على صلة الموصول التي هي جملة{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة ؛فجعل «قيِّماً » حال من «الكتاب » يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة ،وذلك لا يجوز .وذهب جماعة آخرون إلى أن «قيِّماً » حال من «الكتاب » وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف .وذلك أنهم قالوا: إن جملة{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1} ليست معطوفة على الصلة ،وإنما هي جملة حالية .وقوله «قيِّماً » حال بعد حال ،وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجاً ،وفي حال كونه قيماً .وتعدد الحال لا إشكال فيه ،والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها ،كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد *** لمفرد فاعلم وغير مفرد
وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف .فمثاله مع العطف: قوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ 39} ومثاله بدون عطف قوله تعالى:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} الآية .وقول الشاعر:
على إذا ما جئت ليلى بخفية *** زيارة بيت الله رجلان حافيا
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله: هذا بسراً أطيب منه رطباً .ونقل منع ذلك أيضاً عن الفارسي وجماعة .وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون: إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى .والأولى عندهم هي العامل في الثانية .فهي عندهم أحوال متداخلة ،أو يجعلون الثانية نعتاً للأولى وممن اختار أن جملة{وَلَمْ يَجْعَل} حالية ،وأن{قَيِّماً} حال بعد حال الأصفهاني .
وذهب بعضهم إلى أن قوله{قَيِّماً} بدل من قوله{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1} لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيماً .
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد ،وعليه فهو بدل مفرد من جملة .
كما قالوا: في عرفت زيداً أبو من .أنه بدل جملة من مفرد .وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية .
وزعم قوم أن{قَيِّماً} حال من الضمير المجرور في قوله{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1} واختار الزمخشري وغيره أن{قَيِّماً} منصوب بفعل محذوف ،وتقديره: ولم يجعل له عوجاً وجعله قَيِّماً ،وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز ؛كما قال في الخلاصة:
ويحذف الناصبها إن علما *** وقد يكون حذفه ملتزماً
وأقرب أوجه الإعراب في قوله «قَيِّماً » أنه منصوب بمحذوف ،أو حال ثانية من «الكتاب » والله تعالى أعلم .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} اللام فيه متعلقة ب{أَنْزَلَ} وقال الحوفي: هي متعلقة بقوله{قَيِّماً} والأول هو الظاهر .
والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد .فكل إنذار إعلام ،وليس كل إعلام إنذاراً .والإنذار يتعدى إلى مفعولين ،كما في قوله تعالى:{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى 14} ،وقوله{إنا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} الآية .
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار ،فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول ،وحذف في الثاني مفعول الثاني ،فصار المذكور دليلاً على المحذوف في الموضعين .وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه .وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين قالوا اتخذا الله ولداً بأساً شديداً من لدنه .
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين .وبشارة للمؤمنين المتقين .إذ قال في تخويف الكفرة به{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} وقال{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا 4} الآية .وقال في بشارته للمؤمنين:{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا 2} الآية .
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذاراً لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر كقوله:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً 97} ،وقوله:{المص 1 كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ 2} .
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة «الأعراف » .وأوضحنا هنا لك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن .والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه: هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والبشارة: الخير بما يسر .
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء ،ومنعه قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 7} ومنه قول الشاعر:
وبشرتني يا سعد أن أحبتي *** جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الآخر:
يبشرني الغراب ببين أهلي *** فقلت له ثكلتك من بشير
والتحقيق: أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء ،أسلوب من أساليب اللغة العربية .ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازاً ،ويسمونه استعارة عنادية ،ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} بينت المراد به آيات أخر ،فدلت على أن العمل لا يكون صالحاً إلا بثلاثة أمور:
الأولأن يكون مطابقاً لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم .فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح ،بل هو باطل ،قال تعالى:{وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية ،وقال:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية ،وقال:{أَمْ لَهُمْ شركاء شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} الآية .إلى غير ذلك من الآيات .
الثانيأن يكون العامل مخلصاً في عمله لله فيما بينه وبين الله ،قال تعالى:{وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية ،وقال:{قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ 11 وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ12 قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم13 ٍقُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ ديني 14فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} إلى غير ذلك من الآيات .
الثالثأن يكون العمل مبنياً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة ،لأن العمل كالسقف ،والعقيدة كالأساس ،قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية ،فجعل الإيمان قيداً في ذلك .
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة ،كقوله في أعمال غير المؤمنين:{وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء مَّنثُوراً 23} ،وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الآية ،وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
والتحقيق: أن مفرد الصالحات في قوله:{يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} ،وقوله:{وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ونحو ذلكأنه صالحة ،وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة ؛كإطلاق اسم الجنس لتناسى الوصيفة ،كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مراداً بها الفعلة الطيبة .
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك قول أبي العاص بن الربيع في زوجة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بنت الأمين جزاك الله صالحة *** وكل بعل سيثنى بالذي علماً
وقول الحطيئة:
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة *** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل إعرابي عن الحب فقال:
الحب مشغلة عن كل صالحة *** وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
وقوله في هذه الآية الكريمة:{أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا 2} أي وليبشرهم بأن لهم أجراً حسناً .الأجر: جزاء العمل ،وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر: هو الجنة .ولذا قال{مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا 3} وذكر الضمير في قوله{فِيهِ} لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر ،وإن كان المراد بالأجر الجنة: ووصف أجرهم هنا بأنه حسن ،وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة .كقوله{ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين 13وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين 14 عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ15 مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ 16} إلى قوله{ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين 39َوَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين 40} ،وكقوله:{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية ،والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً معلومة .