وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما .
ولذا قال تعالى:{ فاتخذت من دونهم حجابا} ، والفاء للترتيب والتعقيب ، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها ، فلا يرونها في عزلتها ، ولا تراهم ، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من الله تعالى ، لتكون أمّا لعيسى ، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقى أمر ربها ، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي ، أو بالإلهام الروحي:{ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاء وطهرك واصطفاك على نساء العالمين 42 يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين 43} ( آل عمران ) .
في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة ، كان لقاء جبريل الأمين لها ، ولذا قال تعالى:{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} ، الروح هو جبريل ، وقد عبر عنه بروح القدس ، وأضيفت الروح إلى الله ، لأنه خالقها ، ولأنه المختص برسالته إلى خلقه ، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى:{. . .فنفخنا فيها من روحنا . . . 91} ( الأنبياء ) ، أي جبريل الأمين ، والفاء للترتيب ، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا ، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل ، فتمثل لها بشرا سويا ، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوى الخلق والتكوين حسن الصورة ، وقد جاءها كذلك ، لأن البشر لا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر ، قال تعالى:{ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون 9} ( الأنعام ) ، لأن البشر بحالهم البشرية لا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية .