وهنا نجد نبي الله زكريا ، وقد وقف بين حالين:حال الإيمان بالله خالق الأسباب والمسببات الذي لا تقيد إرادته عادة ولا سبب أي سبب ، والحال التي تسود الناس ، وهي سيطرة الأسباب والمسببات العادية على تفكيرهم ، فبالأولى طلب ما طلب عالما أن الله تعالى فوق الأسباب والمسببات ، وبالثانية ثار عجبه ، ولذا قال تعالى عنه:
{ قال رب أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا 8} .
الاستفهام ليس للاستنكار ، فكيف يستنكر نبي قدرة الله تعالى على الأشياء من غير وسائط وأسباب ، وهو خالق الوسائط والأسباب ، وإنما كان هذا السؤال للتنبيه إلى موضع الغرابة ، وليؤمن من لم يكن آمن بقدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج في خلقه إلى وسائط وليسمع الناس بيان الله تعالى أنه هين عليه ، وأنه ليس بغريب من الله تعالى ، فقد خلق الإنسان ولم يك شيئا ، وأن الله تعالى غني عن الوسائط والأسباب ، وشكرا لنعمة الله في إجابة الدعاء فقد أجاب سبحانه مع ظهور ما يبعد الإجابة ، ولكن ليس على الله ببعيد .
وموضع البعد أنه شيخ فان قد تصلبت عظامه وصار كالحطام الذي لا تجري فيه الحياة ، فقد بلغ من الكبر عتيا ، وامرأته عاقر لم تنجب ولم يكن من شأن أمثالها في العادة أن تنجب ، وقوله:{ وقد بلغت من الكبر عتيا} ، أي بلغت من كبر السن حدا صرت فيه صلب العظام معروق اللحم ، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة ( عتي ) واشتقاقها:"أي بغلت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل ، ويقال:عتا العود من أجل الكبر والطعن في السن العالية ، أو بلغت من مدارح الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا اه{[1463]} .
وأصل عتى عتوو . كسر ما قبل الواو الأولى فقلبت ثم اجتمعت الواو والياء وكانت إحداهما ساكنة فقلبت ياء وأدغمت الياء في الياء ، وقرئت{ عتيا} بكسر العين وبضمها{[1464]} .