وقد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين ، والنعم التي ينعم بها العباد ، فقال تعالت كلماته:{ الذي جعل لكم الأرض فراشا} جعل تستعمل بمعنى صير ، وتستعمل بمعنى خلق ، كما قال الله تعالى:{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( 103 )} [ المائدة] ، وقوله تعالى:{ وجعل الظلمات والنور . . . ( 1 )} [ الأنعام] وتأتي بمعنى سمى ، كما في قوله تعالى:{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا . . . ( 19 )} [ الزخرف] وتأتي بمعنى أخذ واتخذ .
وجعل هنا بمعنى صير لأنها ذات مفعولين ، الأول{ الأرض} والثاني{ فراشا} ، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان ، ويجد فيها مقاما ثابتا ، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش ، ولذلك قال تعالى:{ ألم نجعل الأرض مهادا ( 6 ) والجبال أوتادا ( 7 )} [ النبأ] وقد وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا ، ووصفت بأنه جعلها بساطا ، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط ، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها ، والانتقال بين آفاقها ، والهجرة بين أجزائها ، وهي للإنسان كالعرصة{[60]} في مسكنه ، وكون الأرض فراشا لا ينافي أنها كرة تدور حول الشمس ، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش ، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر ، والسير فيها من المشرق إلى المغرب ، ومن الشمال إلى الجنوب ، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى .
{ والسماء بناء} أي وجعل السماء بناء ، أي كأنها البناء أو الخباء الذي يحيط بأهله فهي السقف ، أو كالسقف ، ولقد قال تعالى:{ وجعلنا السماء سقفا محفوظا . . . ( 32 )} [ الأنبياء] ويقال:بنى على أهله . أي:زفت إليه زوجه ؛ لأنه من العادة المعروفة عندهم أن المرأة كانت إذا زفت لزوجها بنى لها خباء يسترهما ، فهي من الأرض بمنزلة الخباء الذي يحيط بها ويظلها ؛ ولذا تسمى الأرض المقلة وتسمى السماء التي نراها المظلة .
وإن الازدواج بين المظلة والمقلة تكون نتيجته الماء الذي ينزل من السماء مدرارا ، فيكون غيثا ينبت الزرع ، ويكون منه الكلأ تأكل منه الأنعام والحرث .
ولذا قال تعالى:{ وأنزل من السماء ماء} أي مما كان بناء الأرض{ ماء} ولم يقل من السحاب أو الغمام ، وهي التي يتقاطر المطر منها ، كما قال تعالى:{ ألم تر أن الله يجزي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( 43 )} [ النور] فهذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السحب المتراكمة التي تكون كالجبال ، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء ، لأنها وعاء السحاب ، ولأنه سبحانه وتعالى من على عباده ، بأنه جعل السماء مظلة الأرض ، فناسب أن يذكر السماء مضافة إليها نعمة أخرى ، وهي نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء ، كما قال تعالى:{ وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( 30 )} [ الأنبياء] .
وقد قال سبحانه بالتنكير:{ وأنزل من السماء ماء} أي أن هذا الماء بعض نعمه ، فله نعم من الماء ، وليس الماء الذي ينزل إلا من مياه كثيرة ، تنزل فتفيض بها الأنهار ، وتجري في الأقطار ، فالتنكير للبعضية .
وقال سبحانه:{ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} ومن للتبعيض مثل قوله تعالى:{ فأخرجنا به من كل الثمرات . . . ( 57 )} [ الأعراف] وأسند الإخراج إليه ، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض ، أو أنبتت الأرض ، أو أنبت الماء نباتا ، لبيان جلائل نعمته لأنه هو المخرج ، وهو المنبت ، وهو الذي يربي البذر ، وينتج التمر ، وتلك أسباب وهو خالق الأسباب والمسببات ، فالمولود لا يولد بنطفة الفحل ، ولكن بخلق الله تعالى ، وجعل سبحانه وتعالى النطفة سبب الوجود .
وقال تعالى:{ رزقا لكم} ورزق بمعنى المرزوق ، فهو فعل بمعنى المفعول ، كطحن بمعنى المطحون ، ونقض بمعنى المنقوض ، وتنكير رزق إنما هو للبعضية ، فالثمرات بعض الرزق الذي رزقه الله تعالى ، فالنعم رزق من رزق الله تعالى لعباده ، والفلزات في باطن الأرض من رزق الله تعالى لعباده ، والسمك اللحم الطري من رزق الله تعالى ، واللآلئ في البحار من رزق الله تعالى ، فتنكير{ رزقا} في هذه الآية الكريمة التي نذكر معانيها للدلالة على البعضية ، أي أنه بعض ما رزق الله:{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . . ( 18 )} [ النحل] .
وإنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا ، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا ، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض ، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله ، وهو كثير ، فهو وحده المستحق للعبادة وحده ، إذ لا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا ؛ إذ لا ينفع ولا يضر ؛ ولذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين:{ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} الجعل هنا هو الاتخاذ ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له .
وهؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء ، ومجري النعم ، ومنزل السحاب ، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها ، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم ، وإنهم يفعلون ذلك ، وهم يعلمون ، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء ، وأنه منزل النعم ، وأنهم لا يستجيرون إلا به أو نقول:{ وأنتم تعلمون} أنهم من أهل المعرفة والإدراك ، والفهم والذكاء ، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق ، ومن لا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع ، أو إنهم يعقلون ويدركون ، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم .