لما ذكر الله عباده بنعمة الإيجاد ونعمة المساواة في المواهب التي تقتضي التقوى وعدم إطراء السلف برفعهم إلى مقام الربوبية كما وقع من الذين{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ذكرهم ثانيا ببعض خصائص الربوبية التي تقتضي الاختصاص بالعبودية ؛ فقال{ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} .{ الذي جعل لكم الأرض فراشا} بما مهدها وجعلها صالحة للافتراش والإقامة عليها والارتفاق بها ، أي فهو القادر على جلائل الفعال ، العظيم الذي يستحق العبادة والإجلال ، المنعم بجميع النعم ، الجدير بأعلى مراتب الشكر ، جعل الأرض بقدرته فراشا لأجل منفعتكم{ والسماء بناء} متماسكا لكيلا تقع على الأرض فتسحقكم .السماء مجموع ما فوقنا من العالم والبناء وضع شيء على شيء بحيث يتكون من ذلك شيء بصورة مخصوصة:وقد كون الله السماء بنظام كنظام البناء .وسوى أجرامها على هذه الصفة المشاهدة وأمسكها بسنة الجاذبية فلا تقع على الأرض ، ولا يصطدم بعضها ببعض ، إلا إذا جاء يوم الوعيد وبطل نظام هذا العالم ليعود في خلقه جديد ، والواجب ملاحظته في هذا المقام:هو تصور قدرة الله تعالى وعظمته ، وسعة فضله ورحمته .
ثم بعد أن امتن بنعمة الإيجاد ، ونعمة الفراش والمهاد ، ونعمة السماء ، التي هي كالبناء ، ذكر نعمة الإمداد ، الذي تحفظ به هذه الأجساد ، وهي مادة الغذاء ، التي بها النمو والبقاء ، فقال{ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} الثمرات ما يحصل من النبات نجما كان أو شجرا:يصلح الزارع والغارس الأرض ، ويبذر البذر ، ويغرس الفسيل ، ويتعاهد ذلك بالسقي والعذق ، فيكون له كسب في رزقه ، ولكنه ليس له كسب في إنزال المطر الذي يسقى به ، ولا في تغذية النبات بماء المطر أو النهر المجتمع من المطر ؛ وبأجزاء الأرض وعناصرها الأخر ، ولا في تولد خلاياه التي بها نموه ولا في إثماره إذا أثمر ، وإنما كل ذلك بيد الله القدير – فعلينا أن نتفكر في ذلك لنزداد تعظيما له وإجلالا فلا نعبد معه أحدا .
وبعد أن عرفنا الله تعالى بأنفسنا ، وبنعمته علينا وعلى سلفنا وبعد أن عرفنا ذاته الكريمة بآثار رحمته ومننه العظيمة ، وصرنا جديرين بأن نعرف أن العبد عبد فلا يعبد .وأن الرب رب فلا يشرك به ولا يجحد .قال تفريعا وترتيبا على ما سبق{ فلا تجعلوا لله أندادا} من سلفكم المخلوقين مثلكم تطلبون منهم ما لا يطلب إلا منه .وهو كل ما تعجزون عنه .ولا يصل كسبكم إليه ، لا تفعلوا ذلك فإنهم في الخلق والعبودية مثلكم .
الأنداد جمع ند بكسر النون وفسر بالشريك وهو في اللغة المضارع والكفء ، يقال فلان ند فلان ومن أنداد فلان أي يضارعه ويماثله ولو في بعض الشؤون .والأنداد الذين اتخذوا في جانب الله هم الذين خضع الناس لهم وصمدوا إليهم في بعض الحاجات ، لمعنى يعتقده فيهم الخاضعون المخاطبون بترك الأنداد أولا وبالذات ، وهم مشركوا العرب وأهل الكتاب .فالعرب كانت تسمي ذلك الخضوع والصمود عبادة إذا لم يكن عندهم وحي ينهاهم عن عبادة غير الله فيتحاموا هذا اللفظ"العبادة "ويستبدلوا به لفظ التعظيم أو التوسل مثلا تأويلا لظاهر نص التنزيل .وأما أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا فكانوا يؤولون فلا يسمون هذا الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة أو أندادا أو أربابا .وفرق بين الاتخاذ بالفعل والتسمية بالقول .والجميع متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله وإنما كانوا يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا .ويسمون تشريعهم لهم العبادات وتحليلهم لهم المنكرات .وتحريمهم عليهم بعض الطيبات .فقها واستنباطا من التوراة .إلا أن من النصارى من لا يتحامون التصريح بعبادة السيدة مريم وبعض القديسين استعمالا للفظ في مدلوله اللغوي .
وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما وأعلاها عند المسلمين الأركان الخمسة والدعاء .وقالوا:كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة .كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته ، ولها عند أهل الكتاب صور أخرى والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها به .ولكنهم لا يخرجون بالتسمية أو التأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أندادا كما ذكر الله عنهم في قوله{ 9:30 اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ولم يكن منهم سوى التوسل بهم والأخذ في الدين بقولهم تقليدا لهم بدون فهم لما جاء على لسان الوحي ، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .وقدماء الفرس جعلوا لله ندا في الخلق والإيجاد ، فقالوا:إن للخير إلها هو الإله الأول .وإن للشر إلها يضاده .وليس النهي في الآية عن هذا الند الشريك لأن المخاطبين لا يدينون به كما قلنا وتدل عليه الآيات الكثيرة .
لذلك وصل النهي بقوله عز وجل{ وأنتم تعلمون} أي والحال أنكم تعلمون أنه لا ند له لأنكم إذ سئلتم:من خلقكم وخلق من قبلكم ؟ تقولون الله .وإذا سئلتم:من يرزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر ؟ تقولون الله .فلماذا تستغيثون إذن بغير الله وتدعون غير الله ؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع وادعيتم أنهم شفعاؤكم عند الله ؟ ومن أين جاءكم أن التقرب والتوسل إلى الله يكون بغير ما شرعه من الدين حتى قلتم{ 39:3 ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} ؟
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم .وخلق وسائطكم وشفعاءكم وأعدكم جميعا للتقوى التي تقربكم إليه زلفى ، وساوى بينكم في أنواع المواهب إلا أنه خص الأنبياء عليهم السلام بالوحي ليعلموكم ما أخطأ نظركم ورأيكم فيه ، فعليكم أن تهتدوا بما جاءوا به ، فإن صد المرؤوسين عن ترك تقاليدهم وإتباع الوحي من غير زيادة فيه ولا نقصان منه خوفهم الرؤساء .فقد أثاروا رؤساءهم على الله وجعلوهم له أندادا ، ومن صد الرؤساء عن هذا الإتباع توقع زوال المنفعة والجاه لدى المرؤوسين فقد اتخذوهم أندادا ، فالند هو المكافئ والمثل ، وأنتم بترككم الحق لخوفهم ورجائهم تفضلونهم على الله تعالى وتجعلونه أقل الأنداد تعظيما ، ففروا رحمكم الله إلى الله ، ولا تخافوا غيره ولا ترجوا سواه ، فعار على من يعرف الله أن يؤثر رضاء أحد على رضاه ، لا فرق بين رئيس ومرءوس ، وتابع ومتبوع ، بل هذا لا يقع من مؤمن حقيقي لأن الله تعالى يقول{ 3:175 فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} .