بعد ذلك ذكر الله واجب العبادة ، ومقام كتابه ، فقال تعالى:
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
لعلكم تتقون ( 21 ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء
بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا
تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( 22 )} .
هذه الآيات الكريمة تدعو لعبادة الله تعالى وحده ، وتذكر أنه خالق من في الوجود ، وأنه ربه الذي يربه وأنعم عليه بالنعم ، وهذا يبين أن الكافرين والمنافقين على باطل ، وأن أهل الحق وحدهم هم الذين يسلكون الصراط المستقيم .
{ يا أيها الناس} قال بعض العلماء:إن الخطاب ب "يا أيها الناس"يكون لأهل مكة ، وخطاب "يا أيها الذين آمنوا"يكون للمؤمنين بعد الهجرة ، ونرى أن هذا التخصيص ليس محكما دقيقا ، فهذه سورة البقرة مدنية ، وأهل الإيمان قد قاموا واستقروا ، وأهل الشرك لا يزالون قائمين بمكة .
وفوق ذلك جاء الخطاب ب "يا أيها الناس"في سورة النساء ، وهي مدنية فقد قال تعالى فيها:{ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 170 )} [ النساء] ؛ ولذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل ، والأقرب أن نقول إنه إذا كان ب "يا أيها الناس"فإنه يعم المؤمنين والكافرين ؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة ، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة المحمدية بالتوحيد ، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم . أما النداء ب "يا أيها الذين آمنوا"فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية:نهيا أو طلبا ، أو إباحة بنص شرعي ، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية ، أم كان بالتحريض على الجهاد .
{ يا أيها الناس} قالوا إن النداء ب "يا"يكون للبعيد ، والنداء ب "أي"يكون للقريب ، وهنا النداء ب "يا"و"أي"معا ، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه ، وينادى للبعيد حسا ب"يا"، وللبعيد معنويا بها أيضا ، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه ؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء ، وهما "يا"و"أي"، ويضاف إليهما ، فهو منه عز وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة ، وفوق أن هذا النداء من الخالق ، وهذا يقتضي أعلى العلو وأبعده ، وموضوع النداء له جلال وخطر ، وعظيم شأن ؛ لأنه العبادة أو الشرائع . ويقول الزمخشري في ذلك إجابة على سؤال هو:لماذا كثر النداء في القرآن ب "يا أيها"؟ فقال:لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة ؛ لأن كل ما نادى الله تعالى به عباده من أوامره ونواهيه ، وعظاته وزواجره ، ووعده ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أن ينادوا بالآكد الأبلغ .
كان المنادى الناس ، مؤمنين وغير مؤمنين ، فهو سبحانه وتعالى ينادي الإنسانية كلها لا فرق بين كافر ومؤمن ، وأبيض وأسود ، وعربي وأعجمي ، والذي يناديهم به أن يعبدوه وحده لا إله غيره . وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين ، وتحقيقها في كل منهما بما يناسب ، فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد ، ويتخذونهم شركاء لله – تعالى عن الشبيه والمثل – تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان ، والإيمان بواحد أحد فرد صمد ، ليس بوالد ولا ولد ، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه ، بالخضوع الكامل له وحده سبحانه .
وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه العلي الأعلى ، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان والإذعان ، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين ، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لا يرتابون ، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض ، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته ، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن .
والعبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى ، لا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله ، والعبادات تعم الصلوات ، والزكوات ، والصوم والحج ، وغير ذلك مما يكلفه العباد ، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة ، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى ، ونفع عباده ، فالصانع في مصنعه والزارع في مزرعته إذا قصد بعمله نفع الناس ووجه الله تعالى ، فهو في عبادة ، فالعبادة تعم كل أفعال الإنسان ، واختصت من بينها الفرائض ، لأنها لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى ، وهو عليم بذات الصدور .
وقد وصف الله – سبحانه وتعالى – ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة ، من له قلب يخشع ، وعقل يخضع ، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد ، فقال "ربكم"أي رباكم ونماكم ، أو ربكم:تولاكم ، وكلأكم بالليل والنهار ، ويتبع حياتكم ، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم ، ونفوسكم وعقولكم ، ولا تخفى عليه خافية من أموركم ، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده ، لا شريك له ؛ لأنه لا أحد سواه يربكم .
ووصفه ثانيا بأنه{ الذي خلقكم} والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير ، صوركم فأحسن صوركم ، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى ، وأنه وحده الذي خلقهم ، كما حكى الله تعالى عنهم:{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله . . . ( 25 )} [ لقمان] وكانوا يقولون:{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . . . ( 3 )} [ الزمر] .
فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون ، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات ، وإشراكهم كان إشراك العبودية ، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ووصفه ثالثا أنه خلق الذين من قبلهم ، وقد يسأل سائل:لماذا كان هذا الوصف ، والسابق يتضمنه ، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها:من مضى ، ومن حضر ، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف ؟
والجواب على ذلك أنه لا يغني المتضمن عن الصريح ، وذكر الجيل السابق ، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته ، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة فهو خلق السابقين ، وأماتهم ثانية ، وللإشارة إلى أن الحاضرين ليسوا مخلدين ، فهم سيموتون كما مات من سبقوهم وسيبعثون جميعا يوم الدين ، ولأن العرب كانوا يعتزون بأسلافهم ، سواء كانوا ضالين أم كانوا مهتدين . وإن صفة الربوبية وصفة الخلق والتكوين للكون كله ، ولمن حضر من الناس ، ومن سبقوهم وقبروا في مقابرهم ، تقتضي ألا يعبد سواه ، ولا يحمد غيره ، ولا يستحق الألوهية الحق غيره ، فهو الله الواحد الأحد .
وقوله تعالى:{ لعلكم تتقون} متصل بقوله تعالى:{ اعبدوا ربكم} اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه ، وتكونوا في أمن من عقابه ، و"لعل"الدالة على الرجاء فيها من العباد ، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها ، وتحقيقها ، ويقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة ، لأن تغليب الخوف عبادة ، ورجاء النجاة عبادة .
وقد يقال إن قوله تعالى:{ لعلكم تتقون} متصلة بقوله تعالى:{ خلقكم والذين من قبلكم} ومثل قوله تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 )} [ الذاريات] والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته ، والاعتزاز بعزته .
وإن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء ؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع ، والرجاء لا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى ، بل هو من أحوال الخلق .
ولذلك قرروا أن ( لعل ) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز ، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون ، لا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم ، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها ، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة يبتغونها ، فالرجاء من حالهم ، والله تعالى لا يرجو ، ولا يتصور منه ، إنما يتصور منه العلم ، ووقوع الأمر كما علم ، وكما قدر .
وعندي أن الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح ، ولا إشكال فيه .