وصور سبحانه وتعالى قوة البرق وأثرها في نفوسهم بقوله تعالى:{ يكاد البرق يخطف أبصارهم} والخطف معناه الأخذ السريع ؛ ولذلك يطلق على الطائر إنه الخطاف لسرعة أخذه ، وخطف من باب فرح ، وهي اللغة الفصيحة السائغة في لغة العرب ، وهناك لغة تجعلها من باب ضرب ، فيقال خطف يخطف ، وقد قرئ بها فهما قراءتان ، وقالها الأخفش ، فروي أن الأخفش قال:خطف يخطف ، ولكن قال الجوهري:وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف .
وعندي أنه إذا كانت هناك قراءة بكسر الطاء لا يليق أن تذكر بأنها رديئة ، وقد روي أنه قرأ بها على زين العابدين ، ويحيى بن وثاب ، وقرأ بها يونس ، والأولى أن يقال إنهما لغتان في حركة الطاء . هذا والآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته ، كما في قوله:{ يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( 43 )} [ النور] ، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا ، فلا يبصرون ، وكانت السرعة في أخذه ، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفي سريعا ، ولا تبقى طويلا .
{ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي كلما كان البرق كان الضوء المنير ، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين ؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا ، وإذا اشتد السعي كان عدوا ، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان ، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو ، وصار ظلاما – قاموا – أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين ، فهو قيام الحائر الراكد الذي لا يدري ما الله فاعل ، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق ، ولأنها حركة تغدو وتروح ، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته ، أما الإظلام فلا يطلبونه ، وهو حال سلبية لا تجدد فيها ، لا يطلبون ، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين .
{ ولو شاء الله لذهب بسمعهم} لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها ، أي لأخذها كما أعطاها ، فقوله تعالى:{ لذهب بسمعهم وأبصارهم} معناه لاستردها ، وأعادهم صما وعميا ، كما قال تعالى:{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( 78 )} [ النحل] .
ثم ذيل سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته ، فقال تعالت كلماته:{ إن الله على كل شيء قدير} وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم ، وكل قواهم ، وقد أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات:بالجملة الاسمية أولا ، وب"إن"ثانيا ، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود ، ومالك كل موجود ، وعموم قدرته على الأشياء كلها{ إنه علي حكيم ( 51 )} [ الشورى] .
وهذه الأخبار كلها – من نزول الصيب المنهمر انهمارا ، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق ، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها ، أهي مجاز لأمور معنوية ؟ ، أم هي حقائق وليست مجازا ؟ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول ، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا ، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى .
ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين ، يقول الفراء في قوله تعالى:{ كلما أضاء لهم مشوا فيه}:أنهم كانوا كلما سمعوا القرآن ، وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ، ويضلون به ، أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم .
وروي عن ابن عباس "المعنى أنه كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم ، وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك".
وكذلك يفسر الصيب بالقرآن حياة الأرواح ، والظلمات والرعد والبرق بما يكرهون به أنفسهم مما يحسبونه شرا عليهم من نصر للمؤمنين ، وتمكين للإيمان ، وهكذا .
وإن الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية ، أو تشبيه تمثيلي ، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم ، وفيه ماء الحياة الذي يحيي القلوب ويغذيها . وأنالهم العبر والمثلات من تأييد الله تعالى ، ونصره الدائم المستمر للمؤمنين ، والخذلان الدائم لهم ، وما يقرعهم من آيات بينات ، وما يجيء إليهم من بلايا بسبب الخزايا التي تنزل بهم كالرعد الذي يقرع الأسماع والبينات تجيء إليهم نورا يسيرون فيه ، ثم تظلم قلوبهم وينطفئ نور الحق بينهم .
شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق ، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا .
فالكلام الكريم ، فيه تشبيه حال بحال ، وما فيه من مثل قوله تعالى:{ والله محيط بالكافرين} وقوله:{ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} إنما هو ترشيح الاستعارة ، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به ، كما إذا قلت عن شجاع:إنه ليث ، ثم قلت:له لبد ، أظفاره لم تقلم ، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به . والله أعلم .
العبادة والقدرة والكتاب
ذكر الله تعالى في أول السورة مكانة الكتاب ، وأوصاف المتقين ثم أوصاف الذين كفروا ، ثم ذكر أوصاف المنافقين ؛ لأنهم شر هذا الوجود الإنساني ، وداؤه ، ويكمن فيهم سبب فساده .