{ يكاد البرق يخطف أبصارهم ، كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا} إذا لمع البرق بشدة مفاجئا من هو في ظلمة فإنه يؤثر في بصره تأثيرا يكاد يخطفه ، والخطف هو الأخذ بسرعة ، ولكنه يتبين به جزءا من الطريق فيمشي فيه خطوات ثم يعتكر عليه الظلام ، وتستحوذ عليه المخاوف والأوهام ، فيقف في مكانه ، أو يعود البرق إلى لمعانه ، ويحاكي هذا من حال الممثل بهم أنه عندما يدعوهم الداعي إلى أصل الدين ، ويوضح لهم سبب ما هم فيه من البلاء المبين ، ويتلو عليهم الآيات البينة ، ويقيم لهم الحجج القيمة ، على أنهم تنكبوا الصراط السوي ، وأصيبوا بالداء الدوىّ ، يظهر لهم الحق فيعزمون على إتباعه ، وتسير أفكارهم في نوره بعض خطوات ، ولكن لا يعتمون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشهوات ؛ وغبسة الأهواء والشبهات ، فتقيد الفكر وإن لم تقف سيره ، وإنما تعود به إلى الحيرة – كما تقدم في أول الكلام – ثم يتكرر النظر في تضاعيفها بطريق الالتفات والإلمام .وفيه:أنهم على سوء الحال وخطر المآل ، لم تنقطع منهم الآمال ، كما انقطعت من أصحاب المثل الأول الذين وصفوا بالصم البكم العمي ولذلك قال فيهم{ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} حتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تفيدهم هداية هاد ، ولم يقل:إنه ذهب بنورهم كما ذهب بنور أولئك وسلبهم كل أنواع الهدى والرشاد ، فوقع اليأس من رجوعهم إلى الحق .وقوله تعالى{ ولو شاء الله} الخ رجوع إلى بيان حال من ضرب فيهم المثل .لا من تتمة المثل ، وقد كني عنهم بالضمير هنا لأن المثل قد تم ، بعد ما ذكرهم في قوله{ والله محيط بالكافرين} بالوصف الذي اقتضى التمثيل .هذا ما قاله شيخنا ، وهو أحد قولين للمفسرين ، ومنهم من جعله تتمة للمثل نفسه ، والمقصود من ضرب فيهم المثل ، على أن كلا من المعنيين صحيح لا ينافي الآخر ، وكلام بعضهم يمنع الجمع فقد قال البغوي:ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة .كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة ا ه وهو خطأ بياني فإن الباطنة هي المقصود من الظاهرة بأسلوب التشبيه البليغ وهو الاستعارة .ومع هذا فقد جعله شيخنا في صنف منهم غير الموصوفين بقوله{ صم بكم عمي} وكلامه أظهر .
{ إن الله على كل شيء قدير} ليس عندي عن أستاذنا شيء في هذه الجملة ومعناها واضح لا يحتاج إلى التفسير ، ولكن قال بعض المفسرين:إن قدير بمعنى قادر ومثله كل صيغة مبالغة في أسمائه تعالى لأنه لا تفاوت فيها .وفيه أن المبالغة في الكلام ، لأجل التأثير في الأفهام ، فقوله{ علام الغيوب} أبلغ من قوله{ عالم الغيب} ولكل منهما موقع ، وهاهنا لما هدد المنافقين بأنه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، علله بأنه على كل شيء قدير ، للإعلام بأن تعلق مشيئته يتصل به تعلق قدرته ، فما شاء كان قطعا لأنه لا يعجزه شيء ، وتأثير الأسباب في مسبباتها منوط بمشيئته تعالى .
( تنبيه صادع .في تطبيق القرآن على ما هو واقع )
( وظهور معاني الأمثال المضروبة للمنافقين ، في كثير من العلماء والعامة من المسلمين )
عقب الأستاذ تفسير هذه الآيات بتنبيه ، ارتاع له الخامل والنبيه ، ذلك أنه بين أن القرآن هاد ومرشد إلى يوم القيامة ، وأن معانيه عامة شاملة ، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصا مخصوصين ، وإنما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب .فلا يغترن أحد بقول بعض المفسرين:إن هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيتوهم أنها لا تتناوله وإن كانت منطبقة عليه .لأنه لم يتخذ القرآن إماما وهاديا ، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خلقت له ، بل اكتفى عن ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه ، في كل ما هم فيه ، ذكر ذلك عند بيان وجه الاتصال بين الآيات السابقة وما بعدها ، فقال بعد تلاوة الآية التالية ما معناه:{ ( 21 ) يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( 22 ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون}