ولما بَيَّن الله شدة الصوت ،وأنهم لفرارهم منه ،وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم ،فقال تعالى:{يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي يقرب أن يخطف أبصارهم .أي يأخذها بسرعة ،فتعمى ؛وذلك لقوته ،وضعف أبصارهم ..
قوله تعالى:{كلما أضاء لهم مشوا فيه}؛فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة ،ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين ؛كلما أضاء لهم .ولو شيئاً يسيراً .مشوا فيه ..
قوله تعالى:{وإذا أظلم عليهم} أي أصابهم بظلمة ؛وذلك أن الضوء إذا انطفأ بسرعة اشتدت الظلمة بعده ؛{قاموا} أي وقفوا ..
قوله تعالى:{ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} دون أن تحدث الصواعق ،ودون أن يحدث البرق ؛لأن الله على كل شيء قدير ؛فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب: فيذهب السمع بدون صواعق ،والبصر بدون برق ؛{إن الله على كل شيء قدير} ..
هذا المثل ينطبق على منافقين لم يؤمنوا أصلاً ؛بل كانوا كافرين من قبل ،كاليهود ؛لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج ،والأوس ؛ومنهم يهود من بني إسرائيل ؛فاليهود لم يذوقوا طعم الإيمان أبداً ؛لأنهم كفار من الأصل ؛لكن أظهروا الإسلام خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعزه الله في بدر ؛فهؤلاء ليسوا على هدًى .كالأولين ؛الأولون استوقدوا النار ،وصار عندهم شيء من النور بهذه النار ،ثم .والعياذ بالله .انتكسوا ؛لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات ؛فيكون هذا المثل غير المثل الأول ؛بل هو لقوم آخرين ؛والمنافقون أصناف بلا شك ..
و"الصواعق "عبارة عما في القرآن من الإنذار ،والخوف ؛ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى:{يحسبون كل صيحة عليهم} [ المنافقون: 4]؛و"البرق "نور الإسلام ،لكنه ليس نوراً يستمر ؛نور البرق ينقطع في لحظة ؛وميض ؛فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً ،ولا فكروا في ذلك ؛وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع ،فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط ؛وبعد ذلك يقفون ؛كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم ؛لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبيصلى الله عليه وسلم ؛بل لكبريائهم ،وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم ؛لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته ،ومقابلته ..
فالظاهر أن القول الراجح أن هذين مثلان يتنَزلان على صنفين من المنافقين ..
فإن قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم ؟
فالجواب: نقول: نعم ؛قال الله تعالى:{ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [ المنافقون: 3]؛وهذا يدل على أنهم آمنوا أولاً ،ثم كفروا ثانياً ؛لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم ،ولم تستنر به ؛وإنما هو وميض ضوء ما لبث أن طفئ ؛وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولاً حقيقياً فإنه لن يخرج منه بإذن الله ؛ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسولصلى الله عليه وسلم الذين يدخلون في الإسلام:"فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فيه ؛فقال: لا ؛فقال: وَكَذَلِكَ الْإِيْمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلوبَ "{[60]}؛لكن الإيمان الهش - الذي لم يتمكن من القلب - هو الذي يُخشى على صاحبه ..
/خ20