)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( البقرة:19 ) ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة:20 )
التفسير:
قوله تعالى:{أو كصيِّب من السماء}؛{أو} هنا للتنويع ؛لأن المثل الثاني نوع آخر ؛والكاف اسم بمعنى"مِثل "؛فالمعنى: أو مِثل صيب ؛ويجوز أن نقول: إن الكاف حرف تشبيه ،والتقدير: أو مَثلهم كصيب ؛و"الصيِّب "المطر النازل من السماء ؛والمراد ب{السماء} هنا العلو ..
قوله تعالى:{فيه ظلمات} أي معه ظلمات ؛لأن الظلمات تكون مصاحبة له ؛وهذه الظلمات ثلاث: ظلمة الليل ؛وظلمة السحاب ؛وظلمة المطر ؛والدليل على أنها ظلمة الليل قوله تعالى بعد ذلك:{يكاد البرق يخطف أبصارهم} ،وقوله تعالى:{كلما أضاء لهم مشوا فيه}: وهذا لا يكون إلا في الليل ؛و الثاني: ظلمة السحاب ؛لأن السحاب الكثير يتراكم بعضه على بعض ،فيَحدُث من ذلك ظلمةٌ فوق ظلمة ؛و الثالث: ظلمة المطر النازل؛لأن المطر النازل له كثافة تُحدِث ظلمةً ؛هذه ثلاث ظلمات ؛وربما تكون أكثر ،كما لو كان في الجو غبار ..
قوله تعالى:{ورعد وبرق}؛ "الرعد "هو الصوت الذي نسمعه من السحاب ؛أما"البرق "فهو النور الذي يلمع في السحاب ..
فهؤلاء عندهم ظلمات في قلوبهم .فهي مملوءة ظلمة من الأصل ؛أصابها صيب .وهو القرآن .فيه رعد ؛والرعد هو وعيد القرآن ؛إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد ؛وفيه برق .وهو وعد القرآن ؛إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور ،وهدى يكون كالبرق ؛لأن البرق ينير الأرض ..
قوله تعالى:{يجعلون أصابعهم في آذانهم}؛الضمير في{يجعلون} يعود على أصحاب الصيب ؛ففيها حذف المضاف ؛والتقدير: أصحاب الصيب ؛وإنما قلنا ذلك ؛لأنه ليس المشبه به هنا هو الصيب ؛وإنما المشبه به الذين أصابهم الصيب ؛و"أصابع "جمع أصبع ،وفيه عشر لغات أشار إليها في قوله: .
وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثَه التسعُ في إصبعٍ واختم بأصبوع هذا وقد قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين ؛الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن ؛و الثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن ؛والتحقيق: أنه ليس في الآية مجاز ؛أما الأول: فلأن"أصابع "جمع عائد على قوله تعالى:{يجعلون} ،فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع .أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه ؛وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن ؛وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع ؛بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع ؛وحينئذ لا مجاز في الآية ؛على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً ؛لأن معاني الآية تدرك بالسياق ؛وحقيقة الكلام: ما دلّ عليه السياق .وإن استعملت الكلمات في غير أصلها ؛وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة ،وأصول الفقه ،وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن: أن من علامات المجاز صحة نفيه ،وتبادر غيره لولا القرينة ؛وليس في القرآن ما يصح نفيه ؛وإذا وجدت القرينة صار الكلام بها حقيقة في المراد به ..
قوله تعالى:{من الصواعق}؛{من} سببية .أي يجعلونها بسبب الصواعق ؛و{الصواعق} جمع صاعقة ؛وهي ما تَصعَق .أي تُهلك .مَنْ أصابته ؛هذه الصواعق معروفة بآثارها ؛فهي نار تنطلق من البرق ؛فإذا أصابت أحداً ،أو شيئاً أحرقته ؛وغالباً تسقط على النخيل ،وتحرقها ؛وترى فيها النار ،والدخان ؛وأحياناً تسقط على المنازل وتهدمها ؛لأنها كتلة نارية تنطلق بشدة لها هواء تدفعه أمامها ..
فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا ؛ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل ؛إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه ؛وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه !وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا ؛إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم ؛ولهذا قال تعالى:{والله محيط بالكافرين} ،فلن ينفعهم الحذ ..
/خ20