قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السماء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية .
الصيِّب: المطر ،وقد ضرب اللَّه في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم بالمطر ؛لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح ،كما أن بالمطر حياة الأجسام .
وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله جلّ وعلا:{وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} .
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المثل المشار إليه في الآيتين في حديث أبي موسى المتفق عليه ،حيث قال صلى الله عليه وسلم: « إن مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم ،كمثل غيث أصاب أرضًا .فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ،وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها ،وسقوا وزرعوا ،وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تُنْبتُ كلأً .فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه اللَّه بما بعثني به ،فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ،ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به» .
قوله تعالى:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} .
ضرب اللَّه تعالى في هذه الآية الْمثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرآن ،بظلمات المطر المضروب مثلاً للقرآن ،وبيّن بعض المواضع التي هي كالظلمة عليهم ؛لأنها تزيدهم عمى في آيات أخر لقوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ على الذين هدى اللهَ} ؛لأن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم ،ليس على يقين من أمره حيث يستقبل يومًا جهة ،ويومًا آخر جهة أخرى ،كما قال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلهمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} .
وصرح تعالى بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه اللَّه وقوّى يقينه ،بقوله:{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} ،وكقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في الْقُرْآنَ} ،لأن ما رآه ليلة الإسراء والمعراج من الغرائب والعجائب كان سببًا لاعتقاد الكفار أنه صلى الله عليه وسلم كاذب ؛لزعمهم أن هذا الذي أخبر به لا يمكن وقوعه .فهو سبب لزيادة الضالين ضلالاً .وكذلك الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم .فهي سبب أيضًا لزيادة ضلال الضالين منهم ؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ 64} ،قالوا: ظهر كذبه ؛لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار .
وكقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} ؛لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر 30َ} .قال بعض رجال قريش: هذا عدد قليل فنحن قادرون على قتلهم ،واحتلال الجنة بالقوة ؛لقلة القائمين على النار التي يزعم محمّد صلى الله عليه وسلم أنّا سندخلها .
واللَّه تعالى إنما يفعل ذلك اختبارًا وابتلاءً ، وله الحكمة البالغة في ذلك كله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا .
قوله تعالى:{وَرَعْدٌ} .
ضرب اللَّه المثل بالرعد لما في القرآن من الزواجر التي تقرع الآذان وتزعج القلوب .وذكر بعضًا منها في آيات أخر كقوله:{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} الآية - وكقوله:{مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية- وكقوله:{نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يدي عَذَابٍ شَدِيد 46ٍ} .
وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير سورة الطور من حديث جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه أنه قال:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،يقرأ في المغرب بالطور .فلما بلغ هذه الآية{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ 35} إلى قوله{الْمُصَيْطِرُونَ 37} كاد قلبي أن يطير .إلى غير ذلك من قوارع القرآن وزواجره ،التي خوفت المنافقين حتى قال اللَّه تعالى فيهم:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} ،والآية التي نحن بصددها ،وإن كانت في المنافقين .فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
قوله تعالى:{وَبَرْقٌ} .
ضرب تعالى المثل بالبرق لما في القرآن من نور الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة . وقد صرح بأن القرآن نور يكشف اللَّه به ظلمات الجهل والشك والشرك .كما تكشف بالنور الحسي ظلمات الدجى كقوله:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً 174} وقوله:{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} ،وقوله:{وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ} .
قوله تعالى:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ 19} .
قال بعض العلماء: مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ: أي مهلكهم ،ويشهد لهذا القول قوله تعالى:{لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} ،أي تهلكوا عن آخركم .وقيل: تغلبوا .والمعنى متقارب ،لأن الهالك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب ،ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ منه .وكذلك المغلوب ،ومنه قول الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا *** بما قد رأوا مالوا جميعًا إلى السلم
ومنه أيضًا: بمعنى الهلاك .قوله تعالى:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} الآية .وقوله تعالى:{وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} الآية .