يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة ، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام – معروفة مألوفة لديهم ؛ ولذلك قال تعالى:{ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( 43 )} [ العنكبوت] .
وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا ، ولكن لم يستفيدوا ، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة ، والإشراق المحمدي ، والجوار لأهل الحق . ولكن استمروا في ظلمتهم .
وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر ، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور ، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع ، وما أصاب نفوسهم من نوازل ، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان ، فلم يتجهوا إليه ، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق ، ومقام عن إدراكه .
لقد نصر الله تعالى المؤمنين ، ونصرهم كان كالصواعق والرعد ، وفيهم الهدى ، فضرب مثلا بهذه الحال ، فقال:{ أو كصيب من السماء فيه ظلمات . .} الآية . أو هنا عاطفة على قوله تعالى:{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا . . . ( 17 )} أي أن مثلهم كمستوقد النار ، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، ويقول الزمخشري:إن "أو"أصلها للشك ، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية ، كقوله تعالى:{ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ( 24 )} [ الإنسان] أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل ، والتسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار ، وتصوير لحال المنافقين ، فالأول يصورهم ، ونور الحق بجوارهم ، وهم يعيشون فيه بأجسامهم ، وإن جافته قلوبهم ، والثاني يصورهم ، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء ، ومن شأنه أن يحيي موات الأرض والنفوس ، ولكنه لهم ظلمات ، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين ، وصواعق تنزل قارعة للأجسام ، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال إلى الهدى ، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين ، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين ، الأول يصور الحق كنور رأوه ، ولم يهتدوا به ، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق ، فلم يرتدعوا به ، فهم لم يهتدوا بنور هاد ، ولم تردعهم النذر والآيات .
والصيب هو الماء ينزل ، وهو وزن فيعل من صاب يصوب بمعنى نزل ، فأصلها صيوب اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ك"سيد"و"ميت"، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف ، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها ، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا ، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء .
والسماء ما أظلك ، ولماذا أسند إلى السماء ، والمطر ينزل منها دائما ؟ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين ، أحدهما – أنه نازل من السماء ، وليس من العيون والينابيع ، فإن ماءها لا ينزل ، ولكن يخرج سلسبيلا ، وثانيهما – للإشارة إلى أنه يجيء من عل ، فينصب انصبابا .
ووصف سبحانه الماء ، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات ، وهي جمع ظلمة ، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدجنة{[57]} الحالكة ، وظلمة السحب الداكنة ، وظلمة الليل الدامس ، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا ، وفيه رعد وبرق ، وفيه صواعق تصك آذنهم صكا شديدا ، وتفزعهم ، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت ، خوفا من أن يموتوا .
وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته ، وقد كان نورا قد أشرق .
والرعد على ما هو مقرر الآن مظهر من مظاهر الكهرباء التي أودعها الله تعالى في الأجسام ، فبعض السحاب يحتوي على كهرباء تسمى موجبة ، وأخرى تحتوي على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة ، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد ، وصحب الاصطدام نور هو البرق ، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق ، فالمطر الصيب يكون فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق ، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في هذا المثل ، ونرجع رجعة نتعرف فيها تفسير علماء الأثر للرعد والبرق والصواعق ، وسنجد من بينهم من يقارب تفسيره لما تقرر في هذا العصر ، ومن باعده .
فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال ، سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال:( ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) ، فقالوا:فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال:( زجره السحاب إذ زجره ، حتى ينتهي إلى حيث أمر ) ، قالوا:صدقت{[58]} . وفسر ابن عباس – في رواية لا ندري مقدار صحتها – البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب .
ولقد جاء في تفسير القرطبي:قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب ، والبرق مما ينقدح ، من اصطكاكهما . ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة ، يتولد عنه صوت هو الرعد ، ونور هو البرق .
وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة ، فقال:والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب ، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد ، والبرق الذي يلمع من السحاب ، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة ، وإن لم يكن هو .
وهنا يجب أن نتكلم في الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكون الرعد والبرق ، فالخبر لم تروه الصحاح ، ولم يروه إلا الترمذي ، ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أولت ، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها ، فقد قال الغزالي:إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها ، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم ، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند ، ولو حديث آحاد خالف ذلك .
وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله:{ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} .
وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد ، لا يضع أصابعه كلها في أذنه ، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه ؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة ، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء ، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي ، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام ، فقد قال تعالى:{ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم . . . ( 6 )} [ المائدة] ، ولا يراد الأيدي كلها ، بل يراد بعضها ، وقال تعالى:{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله . . . ( 38 )} [ المائدة] ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة .
ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها ، ثم يقول:فإن قلت:إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فلم ذكر العام دون الخاص ، قلت:لأن السبابة فعالة من السب ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة .
وفي الحلية{[59]}:إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف ، وظنوا الظنون من هول ما يرون ، وقوله تعالى:{ حذر الموت} أي خوفا من الموت ، فهي مفعول لأجله ، والصواعق جمع صاعقة ، وهي ما ينزل من السماء من نار ، في الرعد والبرق .
وهنا يسأل سائل:هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم ، فيحذرونه بوضع الأصابع ؟ والجواب عن ذلك ، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع ، بل هو تعليل للحال التي هم عليها ، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها ، أو مظهرا من مظاهرها . فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن ، وليل معتم ، وأمطار منهمرة ، ورعد وبرق وسحاب ، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمع صوت الصواعق والرعد – قد يدفع الموت . فهم يفعلونه حذر الموت .
وقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم ، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة ، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه ، ولم ينج منه ، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه ، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك ، كما قال تعالى:{ إلا أن يحاط بكم . . . ( 66 )} [ يوسف] أي تهلكوا بمعنى{ والله محيط بالكافرين} أي هم في قبضته ، إن أراد أهلكهم ، كما قال تعالى:{ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة . . . ( 67 )} [ الزمر] .
والمعنى على ذلك:إنهم يحذرون الموت ، ولا حذر منه ، ولا ينجيهم الحذر ، فإن الله تعالى محيط بهم ، لا يفلتون ، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق ، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب ، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا ، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما .