فصل [ المثل المائي للمنافقين]
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا:فقال تعالى:{ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} [ البقرة:19] .
فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها . وذهب نوره ، وبقي في الظلمات حائرا تائها ، لا يهتدي سبيلا ، ولا يعرف طريقا ، وبنصيب أصحاب الصيب ( وهو المطر الذي يصوب ، أي ينزل من علو إلى أسفل ) فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب . لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق ، ولا نصيب له فيما وراء ذلك ، مما هو المقصود بالصيب ، من حياة البلاد والعباد ، والشجر والدواب ، وإن تلك الظلمات التي فيه ، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره ، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب .
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك:من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره ، وصانع عن صنعته ، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام ، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل ، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب ، وهذه حال أكثر الخلق ، إلا من صحت بصيرته .
فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق ، والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة ، وملامة اللوام ، ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه ، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة ، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون ، وفيها تنافس المتنافسون .
وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ، ومفارقة الأهل والوطن ، ومقاساة الشدائد ، وفراق المألوفات ، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته . فإنه لا يخرج إليه ، ولا يعزم عليه .
وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان ، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد ، والزواجر والنواهي ، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات ، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه ، والناس كلهم صبيان العقول ، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء ، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة ، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق ، ويعلم أنه حياة الوجود .
وقال الزمخشري:لقائل أن يقول:شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق ، والمعنى:أو كمثل ذوي صيب . والمراد:كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا .
قال:والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه:أن المثلين جميعا من جهة التمثيلات المتركبة ، دون المفرقة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه .
وهذا القول الفحل ، والمذهب الجزل ، بيانه:أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض ، لم تأخذ هذا بحجزة ذاك ، فتشبهها بنظائره ، كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها . كقوله تعالى:{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [ الجمعة:5] الغرض:تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يريد فيه من الكد والتعب ، وكقوله تعالى:{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} [ الكهف:45] المراد:قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات . فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ، وتصييرها شيئا واحدا فلا كذلك ، لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم ، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة ، مع رعد وبرق وخوف من الصواعق .
قال:فإن قلت أي المثلين أبلغ ؟
قلت:الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ، وفظاعته ، وكلذلك أفرادهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ .
فصل:وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة
منها:أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه ، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه ، وتصديق جازم ، كان ما معه من النور كالمستعار .
ومنها:أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله ، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان . فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، يقوم بها ويدوم بدوامها . فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها .
ومنها:أن الظلمة نوعان ، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور ، وظلمة حادثة بعد النور . وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه . فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة ، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار ، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء ، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط .
ومنها:أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة ، وأنهم يعطون نارا ظاهرا ، كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا . ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ، ويبقون في الظلمة على الجسر ، لا يستطيعون العبور ، فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر ، فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه . فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار ، وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم النور .
ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى:{ ذهب الله بنورهم} ولم يقل:أذهب الله نورهم .
فإن أردت زيادة بيان وإيضاح ، فتأمل ما رواه مسلم في «صحيحه » من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد سئل عن الورود ؟ فقال:«نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس . قال:فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ، ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك ، فيقول:من تنتظرون ؟ فيقولون ؟ ننتظر ربنا . فيقول ؟ أنا ربكم فيقولون:حتى ننظر إليك ، فيتجلى لهم يضحك قال:فينطلق بهم ، فيتبعونه ، ويعطى كل إنسان منهم - منافق أو مؤمن - نورا ثم يتبعونه . وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك ، تأخذ من شاء الله تعالى . ثم يطفأ نور المنافقين ، ثم ينجو المؤمنون . فينجو أول زمرة ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم ، كأضواء نجم في السماء ، ثم كذلك . ثم تحل الشفاعة ، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال:لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، فيجعلون بفناء الجنة ، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء - وذكر باقي الحديث » .
فتأمل قوله «فينطلق فيتبعونه ، ويعطى كل إنسان منهم نورا » المنافق والمؤمن ثم تأمل قوله تعالى:{ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم ، فبقوا في الظلمة ، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل .
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:«لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده » والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كل معبود سواه باطل .
وتأمل قوله تعالى:{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} [ القلم:42] وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع ، وقوله في الحديث «فيكشف عن ساقه » وهذه الإضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية .
وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه وتعالى بعد هذا وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد ، وفهم القرآن ، ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ، ولم يشركوا به شيئا ، هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها ، فانطلق بها واتبعته إلى النار ، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه ، فسبحان الله رب العالمين ، قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة ، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم .
ومنها:أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة ، التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى ، والمثل الثاني:متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا أمن ولا هدى{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [ الأنعام:82] .
قال ابن عباس وغيره من السلف:مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله ، فاتقى مما يخاف ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره ، فبقي في ظلمة خائفا متحيرا ، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ووارثوهم ، وقاسموهم الغنائم . فذلك نورهم . فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف .
قال مجاهد:إضاءة النار لهم:إقبالهم إلى المسلمين والهدى ، وذهاب نورهم:إقبالهم إلى المشركين والضلالة . وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور:بأنها في الدنيا ، وفسرت بأنها في بالبرزخ وفسرت بيوم القيامة . والصواب:أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة ، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم . جزاء وفاقا{ وما ربك بظلام للعبيد} [ فصلت:46] فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا . ولهذا يسمى يوم الجزاء{ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} [ الإسراء:72]{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [ مريم:76] .
ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد . ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث ، فيموت العبد على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه . ويعود عليه عمله بعينه ، فينعم به ظاهرا وباطنا ، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم ، وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه - ما هو أفضل النعيم ، وأجله وأطيبه وألذه ، وهل النعيم إلا طيب النفس ، وفرح القلب وسروره وانشراحه ، واستبشاره ؟
هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه ، وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين ، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه ، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه ، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار ، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده متبوعها والابتهاج بها ، والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال ومتبوعه فيها من هذه الدار .
وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة ونعيما يخصه ، لا يشبه أثر الآخر وجزاءه . ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة ، وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات . فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مساخط الله بنصيب كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه .
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به العبد من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما يقابله من الأعمال في الدنيا ، فقد رأى قنوا من حَشَف معلقا في المسجد للصدقة . فقال:«إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة » فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله ، فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها .
وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد ، وتفاوت الناس في أحواله ، وما يجري فيه من الأمور .