الآيات
يَأَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( 21 ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَ شاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَر تِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( 22 )
التّفسير
فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتقين ،ومجموعة الكافرين ،ومجموعة المنافقين ،فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإِلهية ،والكفار هم الذين طبع الله على قلوبهم ،والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضاً ،وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم .
ًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًأمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الأولى ،وإلى عبادة الله الواحد الأحد .
وفي الآية الكريمة: ( يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:
1قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً ،وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة ،بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله ،وللثورة على كل ألوان الشرك والإنحراف عن طريق التوحيد .
2يركّز القرآن ،في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله ،على نعمة خلق البشر .وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة .لأن الموجود البشري سيّد الموجودات ،ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة .
أُولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له ،غافلون غالباً عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم ،وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أوجدت هذا الخلق ،وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه .
فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله ،ومحرك للشكر على هذه النعم .
3نتيجة هذه العبادة هي التقوى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالا ،كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً .هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى ،والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد ،وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته .
4عبارة: ( الذين مِنْ قَبْلِكُمْ ) لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم .والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد ،خالق البشر وخالق آبائهم ،وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح .
نِعَم الأرض والسماء:
الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر ،ذكرت أوّلا خلق الأرض: ( اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ) .
فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء ،قد سُخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها .
وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الإستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع ،وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض .فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء !
تعبير «فِراش » يصوّر بشكل رائع مفهوم الإستقرار والإستراحة ،كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الإعتدال والتناسب في الحرارة .هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين( عليه السلام ) مفسراً هذه الآية إذ يقول:
«جَعَلَهَا مُلاَئِمَةً لِطِبَاعِكُمْ ،مُوافِقَةً لاَِجْسادِكُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَديدَةَ الْحماء وَالْحَرارَةِ فَتُحِرقَكُمْ ،وَلاَ شَدِيدَةَ البُرودةِ فَتُجْمِدَكُمْ ،وَلاَ شَديدَةَ طيب الرّيح فَتَصدَعَ هَامَاتِكُمْ ،وَلاَ شَديدَةَ النَّتْنِ فَتُعْطِبَكُمْ ،وَلاَشَديدَةَ اللِّيْن كَالْمَاءِ فَتُغْرِقَكُمْ ،وَلاَ شَديدَةَ الصَّلاَّبَةِ فَتَمْتنِعَ عَلَيْكُمْ في دُورِكُمْ وَأَبْنِيَتِكُمْ وَقُبُورِ مَوْتَاكُمْ ...فَلِذَلِكَ جَعَلَ الأَرْضَ فِرَاشاً لَكُمْ » !{[86]} .
ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: ( وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) .
كلمة «سَماء » وردت في القرآن بمعان مختلفة ،وكلها تشير إلى العلو ،واقتران كلمة «سَماء » مع «بِنَاء » يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض .بل إنّ القرآن صرّح بكلمة «سَقْف » في بيان حال السماء إذ قال: ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفَاً مَحْفُوظاً ){[87]} .
لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أُولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء ،فيتساءلون عن هذا السقف ...عن مكانه وكيفيته .ولعل هذا التعبير يعيد
بادئ الرأيإلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البصل !!من هنا لابدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية .
ذكرنا أن سماء كل شيء أعلاه ،وأحد معاني السماء «جَوّ الأرض » ،وهو المقصود في الآية الكريمة .وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية ،ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات .
لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر .
هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب ،وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية ،على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض .
لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة ،ولَمَا كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب ،وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات{[88]}تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية ،وقليل جداً من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم .
من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو «جو الأرض » حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق( عليه السلام ) يتحدث فيه إلى «المفضّل » عن السماء فيقول:
«فَكّرْ في لَوْنِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهِ منْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ ،فَإِنَّ هَذَا اللَّوْنَ أَشَدُّ الألْوَانِ مُوافِقَةً لِلْبَصَرِ وَتَقْوِيَةً ...»{[89]} .
ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلاّ لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض .ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه .
وأُضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات في جَوِّ السَّمَاءِ ){[90]} .
وحول معاني السماء الأخرى سنتحدث بشكل أوفى في ذيل الآية 29 من هذه السّورة .
بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر: ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) ...ماءً يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات .
عبارة ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) تؤكد مرّة أخرى أن المقصود من «السماء » هنا هو جوّ الأرض ،لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم ،والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض .
الإمام علي بن الحسين( عليه السلام ) يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول: «يُنْزِلُهُ مِنْ أَعْلَى لِيَبْلُغَ قُلَلَ جِبَالِكُمْ وَتِلالِكُمْ وَهِضَابَكُمْ وَأَوْهَادَكُمْ ،ثُمَّ فَرَّقَهُ رِذَاذاً وَوَابِلا وَهَطْلا لِتَنْشِفَهُ أَرَضُوكُمْ ،وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطَرَ نَازِلا عَلَيْكُمْ قَطْعةً وَاحِدَةً فَيُفْسِدَ أَرَضِيكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ وَزُرعَكُمْ وَثِمَارَكُمْ »{[91]} .
ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَراتِ رِزْقَاً لَكُمْ ) .
وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده ،ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه ،من ماء عديم اللون ،ليكون قوتاً للإنسان والحيوان ،لذلك عطف عليها قوله تعالى: ( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .
فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون اللّه ،لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم ،ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة .
و«الأنداد » جمع «نِد » على وزن ضدّ ،وهو الشبيه والشريك ،وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمراً واقعياً .
وبعبارة أدق: ندّ الشيء ونديدهكما يقول الراغب في المفرداتمشاركة في جوهره ،وذلك ضرب من المماثلة ،أي المماثلة في جوهر الذات .
بحوث
الشّرك في أشكال مختلفة:
لابدّ من التأكيد على أن الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون ،أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما تقول النصارى .بل إن للشرك معنىً أوسع وصوراً متنوعة أكثر ضموراً وخفاءً .وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك .وهذا ما يعبّر عنه ابن عباس إذ يقول:
( الأنداد ) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء ،وهو أن يقول: والله ،وحياتك يا فلان ،وحياتي !...ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة !...وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت ...هذا كله به شرك{[92]} .
ونقرأ في حديث شريف أن رجلا قال لرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): ما شاء الله وشئت .
فقال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «أجعلتني لله ندّاً » ؟!
مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجةمع الأسفبين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد ،كقولهم: اعتمادي على الله وعليك !!
في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق( عليه السلام ) في تفسير قوله تعالى: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ){[93]} قال: «قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلاَ فُلاَنٌ لَهَلَكْتُ ،وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لأَصَبْتُ كَذَا وَكَذا ،وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لَضَاعَ عِيَالِي » .{[94]}
وسيأتي توضيح أكثر في هذا المجال في ذيل الآية 106 من سورة يوسف .