وإن اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لا نبي إلا من بينهم . إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا ، ولذلك قال تعالى فيهم:{ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} .
كان الكلام للغيبة ، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بني إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار وبه يجحدون ذلك الجحود ، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل ، وقوله تعالى:{ وإذا قيل لهم} بالبناء للمجهول لكثرة القائلين ، فكتبهم تقول لهم ذلك ، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك ، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يدعونهم ، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم ، فكثر القائلون ، وإن البناء للمجهول له معنى آخر ، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي فهذا موضع اللام ، فلا لوم على من قال ، فلا حاجة إلى ذكره ، إنما اللوم كله في ردهم .
القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى ، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به ، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى .
وردهم نؤمن بما أنزل علينا ، أي لا نرى الإيمان إلا بما أنزل علينا نحن مع أن المنزل واحد ، وهو الله تعالى ولكنهم يغالون في إتباع هواهم وشهواتهم ، فيزعمون أنه لا أنبياء إلا فيهم وإنهم يكفرون بما وراءه ، أي بكل ما جاء بعده ، فوراء يبين ما جاء خلفهم وبعدهم كما كفروا من قبل بعيسى عليه السلام .
ويبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم ، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين أحدهما ذاتي وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل ، وتقرها الفطرة ، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز ، مثبت وجوده بنفسه ، لا يحتاج إلى بينات وراءه ، والثاني إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم ، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد ، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل ، وبين ما عندهم ؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن ، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم .
ولكنهم قوم لا يؤمنون بشيء لا بما عندهم ، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم ؛ ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء ، بالوقائع التي كانت من أسلافهم ، وارتضوها هم ، فقال تعالى:{ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} . والمعنى:قل لهم يا نبي الله ، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم ، فلم تقتلون أنبياء الله ؟ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم ، وذكر الأنبياء مضافا إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق ، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل ، فقد قتلوا زكريا ويحيى ، وهما من ولد إسحاق ، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يصوغ قتل أنبياء الله ؛ ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة:{ إن كنتم مؤمنين} أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمره حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم ، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم ، ولا يؤمنون بما عندهم .