هذا إضراب انتقالي من بيان إلى بيان ، فبين تعالى حمايتهم من أن يأتيهم العذاب بغتة ، وأن آلهتهم لا تغني عنهم من الله من شيء ، ثم انتقل سبحانه إلى بيان لبعض ما يأدي بهم إلى الشرك والإصرار عليه ، ومعاندة الأنبياء بعامة ، ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة فقال:{ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر} أي متع الله سبحانه هؤلاء وكانت متعتهم امتداد لما متع به آبائهم من قبلهم ، متعهم أولا بسلطان في البلاد العربية ، وإن لم يكن ملكا ، بل كانوا نفوذا أشبه بالملك ، ومتعهم ثانيا بأن كانت إقامتهم في بيت الله الحرام ، وهم آمنون ويتخطف الناس من حولهم ، ومتعهم ثالثا بأن كانت لهم متاجر تسير في البلاد العربية من شمالها إلى جنوبها ، ومتعهم رابعا بأن كانوا رؤساء الحج في أيديهم السدانة والسقاية ، ومفتاح الكعبة التي كان يؤمها الناس من كل فج عميق ، ومتعهم خامسا بأن في أيدي الكثيرين منهم المال والبنين وأنهم أكثر نفيرا .
متعوا بكل ذلك ، والمتعة من غير إيمان تغرى بالشر ، واستمرارها يؤدي إلى طمس النفس عن المعارف الدينية ، ولقد كانت هذه المتع تتسلسل فيها الأنباء عن الآباء ، ولذا قال تعالى:{ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر} ، و{ بل} هنا للإضراب الانتقالي ، بأن انتقل من المظاهر التي بدت في شركهم وإعراضهم عن الله تعالى إلى بيان الحال النفسية التي كانوا عليها حتى أغرتهم بالتطاول على الله وعلى الحق ، وسيطرت عليهم الأوهام ، وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى تحجرت عليها قلوبهم ، وصارت قلوبهم غلفا ، وصاروا صما عن سماع الحق بكما عن المنطق به وركبتهم الطغواء ، حتى صاروا لا يرون ما هو واقع ، ولا يتوقعون إلا ما يتفق مع أهوائهم ، ولا يعرفون أن الأمور التي استكنها الغيب لهم لا ترضيهم ، ولذا قال تعالى:{ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرفها} .
"الفاء"مؤخرة عن تقديم ، وهي تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها ، والمعنى فألا يرون أن الأرض تنقص عليهم ومن أطرافها ، والسورة مكية ، ولمن يكن الجهاد قد قام ، واشتجرت السيوف وسار الإسلام من نصر إلى نصر حتى أحيط بهم . وأسند الإتيان إلى الله تعالى في قوله:{ نأتي الأرض} للإشارة إلى أن ذلك بإرادة الله تعالى الذي ينصر من يشاء ويعز من يشاء ، وإذا كان الله تعالى هو يأتي الأرض ينقصها من أطرافها ، فإن جنده هم الغالبون ، ولذلك كان الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى:{ أفهم الغالبون} "الفاء"فاء الإفصاح عن شرط مقدر ، تقديره إذا كان الله هو الذي ينقص الأرض من أطرافها فأهم الغالبون ، و"الفاء"مؤخرة عن التقديم ، أي ليسوا هم الغالبون ، وقد أكد النفي المفهوم من الاستفهام ، وهذه الآية في معناها ظاهرها أنها نزلت بالمدينة ، وإن التمتع لهم ولآبائهم يجعلها أقرب إلى أن تكون مكية ، ولعلها نزلت بمكة ، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة ، وقد جوز العلماء ذلك .