قوله تعالى:{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} .
الظاهر أن الإضراب .{بَلِ} في هذه الآية الكريمة انتقالي .والإشارة في قوله{هَؤُلاء} راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله:{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} الآية ،وهم كفَّار قريش ،ومن اتخذ آلهة من دون الله .والمعنى: أنه متَّع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ،فحملهم ذلك على الطغيان واللجاج في الكفر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة ،وأن ذلك يزيدهم كُفراً وضلالاًجاء موضحاً في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى ،كقوله:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نملي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نملي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ 178} ،وقوله تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 183} ،وقوله تعالى:{قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً 18} ،وقوله تعالى:{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ 29 وَلَمَّا جاءهم الْحَقُّ قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ 30} والآيات بمثل ذلك كثيرة .والعمر يطلق على مدة العيش .
قوله تعالى:{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ 44} .
في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء: وبعضها تدل له قرينة قرآنية:
قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها: موت العلماء ،وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة .وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياقظاهر كما ترى .
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها .
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس والثمرات ،إلى غير ذلك من الأقوال ،وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية: فهو أن معنى{نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي ننقص أرض الكفر ودار الحرب ،ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها ،وردها دار إسلام .والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ 44} .والاستفهام لإنكار غلبتهم .وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون ،فقوله:{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ 44} دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار ،وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور .ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى:{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ} على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم ضرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم تفتح أطراف بلادهم ،أو تحل أنت يا نبي الله قريباً من دارهم .وممن يروي عنه هذا القول: ابن عباس وأبو سعيد وعكرمة ومجاهد وغيرهم .وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة «الرعد » أيضاً في قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 41} .وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية «الأنبياء » هذه: إن أحسن ما فُسِّر به قوله تعالى:{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها}هو قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 27} .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب ،واستقراء القرآن العظيم يدل عليه .وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله ،والكفر بما جئت به{أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} أي بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط ،وهم يمرون بديارهم .وكما أهلكنا قوم هود ،وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل مُمَزَّق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل ،والكفر بما جاءوا به .وهذا هو معنى قوله:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ ،فاحذروا من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم .وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ 44} والمعنى: أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء ،الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم ،وأنتم لستم بأقوى منهم ،ولا أكثر أموالاً ولا أولاداً .كما قال تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} .وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً في الأرض فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82} ،وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
وإنذار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جداً في القرآن .وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير رحمه الله من تفسير آية «الأنبياء » هذه بآية «الأحقاف » المذكورة كما بينا .
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: أي فائدة في قوله{نَأْتِي الأرض} ؟قلت: فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ،وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين ،وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها ( ا ه منه ) .والله جل وعلا أعلم .