هذه الآية جزء متمم للآية السابقة متصلة بألفاظها ، ولذا كانت كلمة{ حنفاء} حال من "الواو"في{ فاجتنبوا} ، أي اجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور حال كونكم خالصين لله تعالى مستقيمين سائرين في سبيله ، و{ حنفاء} جمع حنيف ، وهو المائل من الانحراف إلى الاستقامة ، فهؤلاء يخلصون من رجس الأوثان ، ومن قول الزور الاستقامة والإخلاص لله تعالى أي يكونون كلهم لله تعالى لا يبغونها عوجا فليس فيهم ضلال قط ، ولا إشراك قط ، بل خلصوا أنفسهم لله وحده ، لا يشركون في قلوبهم غيره ، ولذا قال تعالى مؤكدا معنى إخلاصهم لله تعالى:{ غير مشركين به} ، حال بعد حال ، أي غير مشركين به أحدا أو شيئا في عبادته ، وضرب بعد ذلك مثلا للمشركين يصور كيف ينحدر من سماء العقل والفكر ، إلى منهوى الأرض ، فقال تعالى:{ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} شبه الله تعالى من يشرك بالله تعالى قد أضله الشيطان وأغواه بتشبيهين مبينين المنهوى الذي انهوى إليه عقله ومداركه ، فشبهه في الأول بمن خر من السماء هابطا ، ففي هبوطه تخطفه الطير ، فتقطعه بمناقيرها ، والتهمته أجزاء ، وذلك لأن من أشرك قد هوى من سماء الإدراك السليم ، والفكر المستقيم إلى مهاو توزعته الأهواء ، حتى صار ليس له فكر جامع ، بل صار موزعا بين ضلال شتت نفسه ، وصار موزعا بين أوهام فاسدة لا راشدا يرشده ، ولا عقل يهديه .
والتشبيه الثاني هو أن من يشرك بالله فكأنما خر من السماء ، وصار كالريشة في مهب ريح الشك والأوهام فيركب متن ريح هوجاء ألقته في مكان سحيق عن الحق ، والهداية ، بل صار ينتقل من ضلال إلى ضلال لا إرادة له .
والسحق التفتيت ، والمكان السحيق ، أي البعيد يلقي إليه مع بعده فتاتا مقطع الفكر موزع الأهواء ، ولا فكر يسير ولا عقل يرشد ، وقد قبسنا الكلام في هذين التشبيهين مع التوضيح والتوجيه من كلام الزمخشري ، فقد قال:"ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية ، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به المهاوي الملتفة"أه .
ونرى أنه جعله تشبيها واحدا مركبا ومفرقا ، ونرى أنه تشبيهان مفرقين أو مركبين ، وإن هذا التصوير كما ذكرنا ، وكما ذكر الزمخشري هو على ذلك في الدنيا ، لبيان هلاك المشرك ، وتخطف الأهواء لمداركه ويبين فساد عقله وضلاله ، وإنه لا يكون بالنسبة للدين إلا في حيرة تسيره الأوهام ولا سلطان له على نفسه ، وقد قال بعض المفسرين:إن تحقق هذه الحال المبينة بالتشبيه ، إنما هي في الآخرة لا في الدنيا . وإننا نرى أن الجميع ممكن بأن تكون هذه حاله في الدنيا والآخرة ، وإنه في الدنيا يتردى إلا ضلال الأوهام والأهواء من سماء الإيمان ، وفي الآخرة يتردى إلى العذاب الأليم الذي يكون فيه خالدا .