{حُنَفَآءَ}: جمع حنيف ،وهو من استقام على دين الحق مائلاً عن الأديان الباطلة .
{سَحِيقٍ}: بعيد .
{حنفاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} مستقيمين في الحق ومائلين عن الباطل ،وذلك بالالتزام بالتوحيد الخالص الذي يرفض الشرك من موقع صفاء التصور والفكر والشعور ،وحركة الحق في داخل الذات ..
فقد اتّخذ الإسلام موقف التوحيد في مواجهة الشرك ،وموقف حق في مواجهة الباطل ،وكان هدف كل عباداته ومعاملاته ومفاهيمه وقوام طريقته في إدارة العلاقات وأسلوبه في الحركة ومنهجه في الحياة ،الوصول إلى هذين الأمرين ،باعتبار أنهما يمثلان الخط العريض لحركة الإسلام في الفكر والتصور والعمل ،وهذا ما جعل الآية تؤكد على اجتناب الرجس من الأوثان وقول الزور ،في سياق الحديث عن العبادة في الحج ،لأن الحج موقفٌ لتأكيد التوحيد في العقيدة والعبادة وكلمةٌ لترسيخ الحق في أعماق الذات .
وقد وردت عدة أحاديث تؤكد على تفسير الزور بالغناء ،ورأى فيها الفقهاء دليلاً على حرمة الغناء ،وربما جاء ذلك نتيجة المضمون الداخلي لكلمات الغناء التي كان الباطل يغلب عليها ،ما يجعل تحريم الغناء مختصّاً بالمضمون الكاذب ،أو الباطل فيه ..وربما كان ذلك نتيجة طبيعة اللحن الذي ينأى بالمشاعر عن الحق أو يثير الأحاسيس الغريزية والشهوات الجامحة التي تبتعد به عن طريق الهدى والحق ..
وقد تحتاج دراسة مثل هذه الأحاديث الواردة في التفسير لمعرفة ما إذا كانت تتناول الكلمة في معناها الشامل ،أو بعض مواردها الخاصة ،لأن ذلك يؤثر على المواقف الفقهية المتخذة على مستوى القضايا العملية ..
الشرك قمة السقوط
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} لأن التوحيد يمثل السموّ الفكري الذي يجعل الإنسان يتصل بسماوات الروح ،ويلتقي بالله الواحد الذي لا إله غيره ،ويشعر بأنه مهما تحرك ،وإلى أيّ مكان انطلق ،وفي أيّ موقع وقف ،وفي أيّ أفق عاش ،فسيلتقي بالله في حركة الفكر والشعور والروح والحياة ،حتى أن الأرض لا تتجمد في المادّة ،بل تتحول إلى حالةٍ روحيّة تلتقي بالسرّ المتحرك الكامن في كل مظاهر الحياة في داخلها ،الناطق ،أبداً ،بعظمة اللهسبحانهالمنفتح على عمق الإبداع في ذاته المقدّسة ..
وهذا ما يجعل من الشرك سقوطاً فظيعاً من الأعالي الممتدّة في رحاب الله ،لأنه يرمي الإنسان في حضيض الوثنية المحدودة ،التي تحجز الذات في حدود ضيقة ،وتمنع الفكر من الارتفاع والسموّ ،وتنصب له حواجز ،فلا يتحرك إلا في أحاسيس اللذّة والشهوة ،وترفع له أكثر من جدارٍ يفقد أمامه فرصة الامتداد في كل مجالات الحياة ،وتقوده إلى الاختناق داخل الزوايا المظلمة التي لا يصلها النور القادم من روح الله ،لأن الصنم يمثل الجمود والتحجّر الكامل ويفتقر إلى المعنى ،كونه شيئاً في المادة العمياء الميتة ،إذ الموت هو فقدان الحياة ،وليس عدماً كان بداية حياة .ولهذا فإن الشرك يمثل حالة سقوط للإنسان ،كما لو كان في السماء ثم خرّ إلى الأرض ،دون أن يملك أيّ موقع للثبات ،{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لتذهب به حيث تشاء ،فتطرحه في الأرض ،أو تأكله ،أو تمزقه وتتركه للرياح ،فلا يملك أن يستقر من موقع إراديّ ،{أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ} وهو يهوي ،لتلقي به{فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد لا قرار له ،ما يجعله معزولاً عن حقائق الحياة ،وعن قضاياها المتصلة بحركة المسؤولية ،لأن الذي يفقد التصور الصحيح لله في آفاق التوحيد ،لا يملك ثبات التصور وعمقه وامتداده حول الإنسان والحياة وطبيعة الصلة التي تربطهما بالله .وهكذا يسقط المشرك من مواقع السموّ إلى مواقع الحضيض ،ومن مواقف الارتفاع إلى مهاوي الانحدار ،في ما يفكر به ويشعر به ويعيشه في أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة ..