{حُرُمَاتِ}: جمع حرمة ،وهي ما لا يحل انتهاكه .
{ذلِكَ} إشارةٌ إلى ما تريد الآية تقريره من قضايا{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} وهي الدوائر التشريعية التي أحاطها الله بنواهيه ،أو المواقع التي أراد الله من الناس احترامها ،فلا يتجاوزون الحدود التي كلفهم بالوقوف عندها ،في ما تستدعيه الطاعة من خضوع لأمر الله ونهيه تعبيراً عن العبودية ،لأن تعظيم هذه الحرمات يمثل تعظيماً عملياً لله ينال به الإنسان الدرجات الرفيعة عنده نتيجة القرب منه ،{فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} في ما يعنيه الخير من النجاح والفلاح والسعادة والفوز في الدارين ،لأن الأفعال المؤثرة إيجاباً على مستوى قضية المصير ،هي التي تبقى وتخلد ،وتعمّق في نفس الإنسان وحياته الطمأنينة الروحية والعملية على كل صعيد ..أمَّا الانحراف عن خط الله ،والتمرّد على إرادته ،فإنه قد يحقق له بعض المكاسب واللذات ،وقد يجلب بعض الفرح الداخلي ،ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى حزن دائمٍ ،وقلق عميق ،بسبب النتائج السلبية التي يتركها على مستوى الدنيا والآخرة ..
وقد نلاحظ أنَّ الله قد أطلق الخير في الآية ،ولم يجعله متعلقاً بشيء محدد ،للإيحاء بأن تعظيم الله بتعظيم حرماته ،يحمل الخير كل الخير للإنسان ،لأنه يمثل الخير الباقي عند الله ،لأن ما عندنا ينفد ،وما عند الله باق ..
وإذا كانت حرمات الله تتحرك في كثير من الموارد والمواقع والأفعال ،فإنها تشمل ما يأكله الإنسان من الحيوان ،فقد حرّم الله أكل بعض الحيوانات ،وأحلّ أكل بعضها الآخر ،تبعاً لما يصلح أمر الإنسان أو يفسده ،لأن أحكام الله لجهة تحليل الأشياء وتحريمها ،تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في داخلها ،أو في أجوائها ،ولهذا أحل الله الأنعام للإنسان ،ليأخذ منها غذاءه ،رحمةً به ،ورفقاً بضعفه ..
* * *
أحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ممّا حرّمه في سورة المائدة في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [ المائدة: 3] .هذا إذا فهمنا المعنى الاستقبالي من الفعل المضارع في كلمة «يتلى » ،لأن المائدة هي آخر ما نزل من القرآن ،والمعنى: أن الله قد أحلّ لكم الأنعام إلا ما استثناه في كتابه ،فحافظوا على حدوده فيها ،فلا تحرّموا حلالها ،ولا تحلّوا حرامها ،ففي ذلك تعظيم عملي لحرمات الله في خط الالتزام .
وقد رأى بعض المفسرين أن استخدام صفة الحاضر في عبارة:{مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} كان قد نزل في سورة الأنعام ،إشارة إلى استمرار التلاوة ،باعتبار «أن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام وهي مكية ،وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده ( ص ) بمكة وأول عهده بالمدينة ،وفي سورة البقرة ،وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضيّ ستة أشهر منها على ما رويولا موجب لجعل{يُتْلَى} للاستقبال وأخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه .
والآيات المتضمنة لمحرّمات الأكل ،وإن تضمنت عدة أمور كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ،إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها بخصوص ما أهلّ به لغير الله ،فإن المشركين كانوا يتقربون في حجّهموهو السنّة الوحيدة الباقية بينهم من ملّة إبراهيمبالأصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى المروة وبمنى ،ويهلّون بضحاياهم لها ،فالتجنب منها ومن الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنيّ به من الآية ،وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضاً من جملة حرمات الله .
ويؤيد ذلك أيضاً تعقيب الكلام بقوله:{فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوثان وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} ،فإن اجتناب الأوثان واجتناب قول الزور ،وإن كانا من تعظيم حرمات الله ،ولذلك تفرّع{فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ} على ما تقدمه من قوله:{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} ،لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذٍ ،وإصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها »[ 4] .
وهذا الرأي قريب إلى الاعتبار ،ولكنه ليس متعيناً ،لأن ما أهلّ لغير الله به مشترك بين الآيات المذكورة .
اجتنبوا الأوثان وقول الزور
{فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَانِ} لما تمثّله من قذارة روحية تشوّه صفاء التصور والمشاعر ،لربطها العبادة بالأوثان ،ولما توحيه من قذارة فكرية تمثلها حالة التخلف التي يجسدها خضوع الإنسان للأحجار الجامدة ،التي لا تملك أيّة قيمة ذاتية ولا أي معنًى ،ولا تنطوي على أي سر من أسرار القوّة إلا ما تصنعه الأوهام الزائفة ،ولما تحركه من قذارة معنوية عملياً على مستوى أقوال الإنسان وأفعاله ،فهو عندما يتعبّد لها في صلاته ،ويبتهل إليها في دعائه ،ويقدم لها القرابين في نذوراته ،ويهلّ بها في ذبائحه ،تنفذ الوثنية إلى روحه وفكره وممارساته ،فيتحجّر ويتحوّل إلى مخلوقٍ محدودٍ في آفاقه ،قذرٍ في مشاعره وتطلّعاته ،ولهذا لاحق الإسلام كل مظاهر الوثنيّة في حياة الإنسان ،ليبعده عن كلّ الكلمات والحركات والعلاقات التي تمتّ إلى الوثنية بصلة قريبة أو بعيدة ،لينأى به عنها من الداخل والخارج .ولذا جاء هذا الأمر القرآني باجتناب معاني القذارة والخبث الكامنة فيها ،بحيث يصبح أمر اجتنابها طبيعياً كما هو اجتناب أيّة قذارة حسيّة في الحياة ،وجاء أمر اجتنابها في مناسبة الحج ،عند الطواف بالكعبة أو الصفا والمروة ،حثّاً لهم للابتعاد عن عبادة الأوثان التي كان يلمّ بها المشركون ويذكرونها على الذبائح أو القرابين ،من أجل أن يكون الحج نظيفاً من ذلك كله .
{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} ،الذي يمثل الباطل في الفكر والعاطفة والحياة ،والذي يتحوّل إلى انحراف في الخط العملي للإنسان ،لأن الكلمة تعني الموقف ،في ما تعبر عنه من حركة الموقف في الداخل وفي الخارج ،ولذلك فإنها قد تترك تأثيراً سلبياً على مجمل الواقع من حولها ،فتشوّه صورته ،وتزيّف معانيه ،وتنحرف به إلى اتجاه آخر ،يضيع الحقوق إذا تحوّل إلى موقف شهادة زور ،ويبدل صورة الحقيقة في حركة الواقع إذا تمثل في كلمة كذب في حياة الناس ،ويثير المشاعر القلقة الهائجة في مواقع الغريزة إذا انطلق في أجواء الفحش والانحلال ..
إنها الدعوة إلى الابتعاد عن كلمة الباطل باعتبار أنها ضد كلمة الحق التي جاءت الرسالات من أجل تأكيد الدعوة للاقتراب منها ،أو الالتزام بها ،والالتصاق بمعانيها والانفعال بإيحاءاتها ومشاعرها ،في الجوّ والحركة والموقف .