قوله تعالى:{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاٌّنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} .
لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام ،ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام:{قُل لاَ أَجِدُ في مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [ الأنعام: 145] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ،أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا:{إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أنها قوله تعالى في المائدة:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [ المائدة: 3] فهو غلط ،لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير ،فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله:{إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة ،فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد .
أما قوله تعالى في المائدة:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاٌّنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [ المائدة: 1] فيصح بيانه بقوله في المائدة:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} .كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاٌّوْثَانِ} .«من » في هذه الآية بيانية .
والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان: أي عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس ،وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان ،ويدخل في حكمها ،ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائناً من كان .وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا ،جاء مبيناً في آيات كقوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} [ النحل: 36] وبيَّن تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [ البقرة: 256] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله ،وبين أن لهم البشرى ،وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [ الزمر: 17] .وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت ،في قوله تعالى:{وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّصْنَامَ} [ إبراهيم: 35] والأصنام ،تدخل في الطاغوت دخولاً أولياً .
قوله تعالى:{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور ،وهو الكذب والباطل كقولهم: إن الله حرم البحيرة والسائبة ،ونحو ذلك ،وكادعائهم له الأولاد والشركاء ،وكل قول مائل عن الحق فهو زور ،لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل ،والاعوجاج ،كما أوضحناه في الكلام على قوله:{تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} .
واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ،أن يذكر لفظ عام ،ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ،وتقدمت لذلك أمثلة .وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه .
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال:{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} بصيغة عامة ،ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [ الفرقان: 4] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور .وقال في الذين يظاهرون من نسائهم ،ويقول الواحد منهم لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [ المجادلة: 2] فصرح بأن قولهم ذلك ،منكر وزور ،وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟قلنا: بلى يا رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » اه وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله:{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِحُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وكما أنه جمع بينهما هنا ،فقد جمع بينهما أيضاً في غير هذا الموضع كقوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف: 33] لأن قوله:{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هو قول الزور .وقد أتى مقروناً بقوله:{وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وذلك يدل على عظمة قول الزور ،لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور ،كادعائهم الشركاء ،والأولاد لله .وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله .نعوذ بالله من كل سوء .
ومعنى حنفاء: قد قدمناه مراراً مع بعض الشواهد العربية ،فأغنى عن إعادته هنا .