{ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
{ حُنَفَاء لِلَّهِ} مخلصين له الدين ،منحرفين عن الباطل إلى الحق{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي شيء من الأشياء .ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ،فقال تعالى:{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي سقط منها فقطعته الطيور في الهواء{ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي تقذفه{ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد مهلك لمن هوى فيه .و ( أو ) للتخيير أو التنويع .قال الزمخشري:يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق .فإن كان تشبيها مركبا ،فكأنه قال:من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية .بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ،فتفرق مزعا في حواصلها .أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة .وإن كان مفرقا ،فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ،والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ،بالساقط من السماء .والأهواء التي تتوزع أفكاره ،بالطير المختطفة .والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ،بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة .فكتب الناصر عليه:أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأيل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ،إلى التنبيه على أحد الأمرين:إما أن يكون الإشراك المراد ردته ،فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا ،فيكون قد عد تمكن المشرك من الإيمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا ،بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى{[5529]}:{ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ،ولكن كانوا متمكنين منه .وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ،بالطير المختطفة ،وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق – نظر .لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين .فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار ،والثاني مثلا لنزغ الشيطان ،فقد جعلهما شيئا واحدا .لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ،مضاف إلى نزغ الشيطان ،فلا يتحقق التقسيم المقصود .والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك فنقول:لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما ،الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة .فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ،فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ،وذلك حال المذبذب .لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه .والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل .لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع .لا سبيل إلى تشكيكه ،ولا مطمع في نقله عما هو عليه ،فهو فرح مبتهج بضلالته .فهذا مشبه في إقراره على كفره ،باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه .ويظهر تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق ،الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ،وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى{[5530]}:{ أولئك في ضلال بعيد} و{[5531]}:{ ضلوا ضلالا بعيدا} أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم .انتهى كلامه .
ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له .إلا أنه لا قاطع به .نعم ،هو من بديع الاستنباط ،ورقيق الاستخراج .فرحم الله ناسجه .
قال ابن كثير{[5532]} وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام .وهو قوله تعالى{[5533]}:{ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ،قل إن هدى الله هو الهدى} الآية .