ويبين سبحانه نعمه على خلقه فقال عز من قائل:
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير 63} .
{ ألم تر} ، الاستفهام هنا للتنبيه ، وقد جاء على صيغة الاستفهام الإنكاري الدال على نفي الوقوع ، وهو داخل على "لم"النافية ونفي النفي إثبات ، والمعنى لقد رأيت بنظرك وعلمك{ أن الله أنزل من السماء ماء} ، والسماء هنا ما علاك ، فليست أجرام السماء من شمس وقمر وكواكب في أبراجها ، وتماسكها ، إنما المطر ينزل من سحاب قريبة دانية أو بعيدة قاصية ، وذلك بينه قوله تعالى:{ ألم تر أن الله يجزي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب بها من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار 43 يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار 44} ( النور ) .
فهذا النص الكريم يوضح نزول المطر من السحاب المتكاثف بقدرة الله تعالى وما كانت لتدره إلا بأمر الله ، وإنه ينزل المطر إلى الأرض لتعمل أيدي الزراع فتبذر البذور وترجو الثمار من الرب ، وتخضر الأرض ، ولذا قال تعالى:{ فتصبح الأرض مخضرة} ، "الفاء"عاطفة ، وهي للتعقيب ، وبظاهر اللفظ يكون الاخضرار عقب نزول المطر بلا تراخ في الزمن ، وكيف يكون وثمة تراخ بإنبات البذر وظهور عيدانه ، وصيرورة الأرض مخضرة ؟ ، والجواب عن ذلك أن التراخي في أعمال العباد ، وليس من الله ، بل إن إرادة الله لا تراخي فيها ، إنما هي أن يقول كن فيكون ، ولأن التعبير ب"الفاء"التي تفيد الفورية فيه تنبيه إلى عجائب الله في الخلق والتكوين ، إذ يكون من التلاقح بين الماء والأرض اليابسة نبات مخضر تزدان به الأرض ، وتكون ذات منظر بهيج ، وقد وصف سبحانه الأرض بأنها مخضرة إذ اختفت طينتها ، ولم تبد إلا خضرة زرعها ، والاخضرار للزرع لا لها ، ولكن لأنه فيها سنح أن توصف هي بالاخضرار باعتبار ما فيها ، ولأنه صار لها كسوة باهرة زاهرة .
وختم الله تعالى الآية بقوله:{ إن الله لطيف خبير} ، أي لطيف بعباده عليم علما دقيقا علم خبرة بما ينفعهم ويقوم به عيشهم ، فيوفقهم له .
وجملة{ إن الله لطيف خبير} ، في مقام التعليل لأنعامه بهذه النعم الكثيرة المتوالية نعمة تلو أخرى .