وقد بين الله سبحانه ضلالهم في اعتقادهم الباطل الذي لم يُبن على علم نقلي أو عقلي بمثل عظيم ، فقال:
{ يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب 73} .
الخطاب عام للناس وقالوا:إنه إذا كان النداء:{ يا أيها الناس} كان يعم الناس عامة والمشركين خاصة ، وإن موضوع القول ، وهو عبادة الأوثان يجعل الخطاب للمشركين أمسّ وأقرب ، و{ ضرب} معناها:بُيّن ، والمثل الحال والشأن ، ففيه تقريب حال بحال ، فحال ضعفهم الشديد صورها سبحانه بأنهم لعجزهم{ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} فحالهم حال عجز عن خلق أي حي ، ولو اجتمعت الأوثان كلها ، وكيف تُعبد ، وهي لا تستطيع خلق الذباب ، ولو اجتمعت له كل هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى ، و{ لن} هي لتأكيد النفي ، وذكر ضمير الأوثان ضمير عقلاء على زعمهم وتفكيرهم ، وليسوا أحياء فضلا عن أن يكونوا عاجزين ، وعبر سبحانه عن حال عجزهم بالمثل ، كأنه مثل مضروب سائر ، وبيّن ذلك الزمخشري فقال:"قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة". وإن هذا التصوير السامي الذي سماه جل جلاله مثلا ، هو برهان على عدم صلاحيتهم للألوهية ، لأنها عاجزة محتاجة ، والمعبود قادر غير عاجز .
{ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه} هذا النص السامي دل على أن هذه الآلهة أعجز من الذباب ، لأنه يعدو عليها ، لأنه لو أخذ منها شيئا على سبيل السلب لا يستطيعون أن يستردوه منه ، فهو القادر عليها ، و{ يستنقذوه} ، السين والتاء للطلب ، أي لا يستطيعون بأكثر جهد وطلب أن ينقذوه منه ، لأنها لا قوة لها في أي ناحية ، فهي جماد لا يتحرك ، ولكن الوهم هو الذي جعل لها قوة في نظرهم الذي يبصر ، وسوّل لهم الشيطان عبادتها .
ونقف هنا وقفة قصيرة ، فنسأل الذين ينكرون وجود الله ، وهم ملاحدة هذا الزمان الذين يحسبون إلحادهم يقوم على فلسفة عقلية:لقد اختبرتم الكون وعلمتم علمه ، وعرفتم النواميس التي خلقها الله ، وإن كنتم تحسبونه ظواهر للأشياء ، وعلوتم إلى داخل الفضاء حتى وصلتم إلى القمر وإلى المشتري ، وعلمتم تكوين الأشياء وأجزاءها وعناصرها ، فهل استطعتم أن تخلقوا ذبابة ، إن الله في كل شيء آية ، فآمنوا به ولا تنكروه .
لم تستطع آلهتهم أن تستنقذ ما يسلبه الذباب ، ولو بذلت أقصى الجهد إن كان لها جهد ، ولذا قال تعالى:{ ضعف الطالب والمطلوب} ،{ الطالب} هو الأوثان فإنها لا حياة فيها ولا قوة لها ،{ والمطلوب} وهو الذباب فهو حيوان ضعيف يستحقر في أعين الناس ولكنه مخلوق لله يضرب به المثل ، كما قال تعالى:{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فوقها . . . 26}( البقرة ) ، فسر بعض السلف الطالب بالعابد والمطلوب بالصنم ، فضعيف الفكر والعقل والإدراك يدعو ضعيفا في ذاته لأنه جماد ، وكلا الرأيين معقول .