ويستمر القرآن في حثّ الإنسان على المقارنة بين عظمة القدرة في ذات الله ،وبين ضعف وحقارة ما يدعونه من دونه من شركاء ،لتتجلى أمام الإنسان تفاهة ما يعتقده ،وانحرافه الروحي ،واهتزاز خطواته ،وليشاهد آلهته على حقيقتها ،فهي ليست إلاّ مجرد مخلوقاتٍ ضعيفةٍ لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً ،إلا في حدود ما وضعه الله فيها من قدرته ..وفي ذلك يتمثل ضعف تلك الآلهة المزعومة أمام أضعف مخلوقات الله تعالى .
{ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} بكل عمق الفكر في عقولكم ،وبكل صفاء الوعي في وجدانكم ،لأنه أمر يتصل بالمصير الإنساني وحركة العقيدة ،لأن التفكير بالمثل المضروب هنا مسؤولية هامة يتحدد على أساسها الموقف من الحقائق التي يكشفها ،فاللاّمبالاة في مثل هذه الأمور قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك الدائم على مستوى العقيدة وخط السير .
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .تجسد هذه الآية الكريمة ،عجز آلهة الكافرين المطلق أمام أصغر مخلوقات الله وأحقرها ،في صورةٍ رائعة ،تسخر من فكرة ألوهية هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله .
وأيّ صورةٍ أبلغ من تلك التي تضع الآلهةبكل ما توحيه صفة الألوهية من قوّةٍفي مشهدين ،أحدهما: اجتماعها على خلق ذبابةٍ واحدةٍ وعجزها عن ذلك ،بالرغم مما تبذله من جهد في هذا السبيل ،وثانيهما: مشهد الذباب ،في كل ما يجسّده هذا المخلوق الصغير من معاني الضعف والصغر والحقارة ،من حيث الحجم والقدرة الجسمية ،وقد اندفع إلى هؤلاء الآلهة الكبار ،ليسلبهم شيئاً ،أي شيء ،فإذا بالآلهة يركضون خلفه ،ويلهثون لاسترجاع ما أخذه ولاستنقاذ ما سلبهم إياه ،فلا يسترجعونه منه ،ولا يستنقذونه من براثنهإن كان للذباب براثن؟!إنه أسلوب يجرّد هؤلاء من صفات الألوهية من جهةٍ ،ويعرّضهم للسخرية والاستهزاء من جهةٍ أخرى ،ويؤثر على موقف هؤلاء الذين اعتقدوا بهم وعبدوهم من دون الله ،عندما يجدون أنفسهم في حالةٍ لا يحسدون عليها ،لأنها لا ترتكز على أساسٍ ،ولا توحي بالاحترام إن لم توحِ بخلافه .
إنه الضعف المتبادل بين الطالب والمطلوب ،إذ يعيش كل واحد منهما نقطة ضعف تختلف في طبيعتها عن نقطة ضعف الآخر ،فإذا كان أحدهما قوياً في جسده ،فقد يكون ضعيفاً في حركته ،وإذا كان الآخر ضعيفاً في جسمه ،فإنه يملك القوّة في سرعة حركته .
إنه مثلٌ يريد الله للإنسان أن يدرك من خلاله سرّ الضعف في الإنسان المتألّه ،أو المؤلَّه ،ليعيبعمق المعرفةأن هؤلاء لا يملكون في ذاتهم أيّ شرطٍ من شروط الألوهية ،بل يعيشون ضعف المخلوقين في وجودهم ..ولكن الناس لا يرتفعون إلى الآفاق الفكرية التي تمكّنهم من الإطلالة على عظمة الله من أوسع المجالات ،بل ينكمشون في تصوّراتهم ،ويبتعدون عن وعي الحقائق في عقولهم .