استخلاف الله أهل الطاعة
الجهد الطاقة ، أو أقصى درجاتها ، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني في تفسير آية{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا على أبلغ ما في وسعهم ، وعلى ذلك يكون معنى الجهد في قوله تعالى:{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، أي باذلين أقصى ما وسعهم من تأكيد القول ، وباذلين في اليمين أعلى درجاتها في تأكيد القول ، أي لا يتركون قولا يؤكدون به عزمهم وإرادتهم إلا سلكوه .
والضمير ف "أقسموا"يعود إلى جماعات المؤمنين ، ويكون يدعوهم إلى ألا يقسموا بل يعلموا ويطيعوا ، وعلى ذلك يكون المعنى عاما ، وإن كان يشير إلى المنافقين وضعاف الإيمان ، كأنهم مقصودون بالقصد الأول ، والعموم مقصود بالقصد الثاني .
وأكثر المفسرون على أن الضمير يعود إلى المنافقين ومرض القلوب ابتداء ، ويكون تحذيرا للمؤمنين بعامة من أن يكون منهم مثل هذا الذي يحلف الأيمان الفاجرة ، وقد رد الله تعالى هذه الأيمان ، وقال سبحانه:{ قُل لَّا تُقْسِمُوا} وهذا فيه إيماء إلى أنها غير صادقة ، وفيه تصريح بردها زجرا لهم ؛ لأنهم بهذا يرتكبون إثمين إثم التخلف عن الجهاد ، وإثم اليمين الفاجرة ، وإن بدل الإثم أن يتجهوا إلى الطاعة ، ولذا قال سبحانه:{ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} ، أي طاعة حقيقية مشهورة معروفة لا مجال لإنكارها ، ولا للتردد فيها ، إذ هي قاطعة ، لأنها ثابتة بالعيان لا بالقول مجردا ، والقسم{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم علما دقيقا بما يعلمون ، أي بما يستمرون عليه من عمل يتفق مع إيمانهم أو لا يتفق ، وإنه يعلم ما تبدون وما تكتمون ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء .
وننبه هنا إلى أمور ثلاثة:
أولها:أن قوله تعالى:{ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} فقوله:{ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} هي القسم ، وهي تتضمن فعل الشرط ، كأنه يوهم إلى أنهم لم يؤمروا مع أن الأمر عام يدخلوا فيه إن كانوا صادقين ، وهم كاذبون ، كما قال الله تعالى:{ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( 46 ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 47 )} [ التوبة] ، والحديث عنهم بالغياب ، لأنه بيان لقولهم وأحوالهم .
ثانيها:الانتقال إلى الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم:{ قُل لَّا تُقْسِمُوا} لمواجهتهم بالأمر والتقصير والنفاق في القول ، والفجر في الأيمان .
ثالثها:أن الضمير في ( وأقسموا ) يعود إلى المنافقين أو إلى المسلمين عامة وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان ، ولكن لم يكن من قبل ذكر لهؤلاء إلا المؤمنين . ونقول في الجواب عن ذلك:إن القرآن كان ينزل في وسط جماعات تدعى إلى الإيمان فلم يكن مفصولا عمن يكونون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزوله ، وقد كانت الآيات ذاتها هي التي تعين مع مواقع الضمير ، ففي مكة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بالقرآن الكريم المشركين وهم الذين يعاندونه ، فكانوا كأنهم حاضرون فيعود الضمير إليهم إذا كان فيه حكاية لعنادهم ومهاتراتهم ، فلما انتقل إلى المدينة ، فبعد غزوة بدر الكبرى ظهر النفاق ، وبدت أنياب اليهود ، فكانت المعاندة من المنافقين واليهود ، وظهر ضعاف الإيمان الذين يعبدون الله على حرف ، فكانت الآيات التي تشير إلى معاندة ، أو خور ، أو نفاق ، تعود على هؤلاء ، ومعاني الآيات الكريمة تعين من بعيد الضمير إليهم .