بعد أن ذكر حال عباد الله مع الله ، ومع الناس أخذ سبحانه وتعالى يذكر حالهم في أنفسهم ، ودنياهم وأسرهم ، فقال عز من قائل:
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} .
الإنفاق هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع ، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها ، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق لله أو للناس أو لنفسه ، ولقد قال ابن عباس:"من أنفق مائة ألف في حقه فليس بمسرف ، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو مسرف ، ومن منع من حق عليه قتر".
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد اخذوا بقوله تعالى:{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( 29 )} [ الإسراء] ، والقتر هو التضييق على النفس بحيث يكون في قدرة ، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة ، أو يضيق فيها ، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة ، كما قال تعالى:{ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره… ( 236 )} [ البقرة] ، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته ، ولا يضيق على نفسه في الحلال ،{ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي عدلا بين الإسراف والقتر .
وإن النص الكريم يفهم منه أمران:أحدهماألا ينفق في حرام قط ، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا ، وفطما لها عن الشهوات ، ولذا كان عمر رضي الله عنه يعد من يطلب كل ما يشتهي مسرفا ، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها .
الأمر الثانيأن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص ، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب ، وما دام كسبه واسعا ، ولقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أب بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب ، يعرف مواضع الكسب والخسارة ، ولم يقبله من غيره ، وقد قال تعالى:{ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو… ( 219 )} [ البقرة] ، أي السهل اللين الذي لا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه .