هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح ، والجمع بين سلامة القلب ، واستقامة العمل ، وتكوين الإنسان النافع ، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يتجنبونه لكيلا يكون ما يعوق هذه الأخلاق العالية ، فقال تعالى:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( 68 ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( 69 )} .
إن أولئك الأبرار الذين رضي الله سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذاته العلية ، فقال وعباد الرحمن ، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لا يستعلون على الناس ، ويرفقون بهم ، ولا يشاكسون بل تكون علاقاتهم بالناس دائما أمنا وسلاما ، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب ، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون ، أولئك قد اتصفوا بصفات ، وهي ذاتها تحمل جزاء ، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات ، كان جزاؤه و هذه الصفات ذاتها ، وهي نعم الجزاء ، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها ، وإن كان لها الجزاء الأوفى .
وقد ذكر سبحانه ما اجتنبوه ، وهو كبريات المساوئ الإنسانية ، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية ، فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .
وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان ، وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية{ يدعون} يعني يعبدون ، لأن العبادة دعاء لله تعالى وضراعة إليه ، وتسليم كل أمورهم في جنب الله ، والدعاء مخ العبادة ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذن عبد غير الله ، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لا يضر ولا ينفع ، أو يعبد إنسانا مثله ، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد ، أو نارا ، أو غيرها ، إن هذا انهواء إنساني ، ومن يعبد شيئا من هذا ، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة ، فقد اتخذ إلهه هواه .
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن ، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل:{ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وهذا وصف للعاصين ، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل ، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى:{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ، وقوله تعالى:{ إلا بالحق} الجار والمجرور متعلق{ لا يقتلون} الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم ، أو زنى أو ردة بعد إيمان ، وهذا النص يفيد أن الأصل في النفوس الصيانة ، وألا يعتدي عليه ، ويحفظ أمنها ، وأنه لا تستباح الأنفس ، إلا بحق كما قال تعالى:{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . . ( 32 )} [ المائدة] .
والأمر الثالث الذي نفاه الله تعالى عن عباد الرحمن الاعتداء على النسل بالزنى ، ولذا قال تعالى:{ ولا يزنون} ، لأن إشاعة الزنى تضيع النسل ، ولا تجعل الناس في أمن ودعة ، وتضعف الوحدة الإنسانية ، ويكون الناس في تناحر ، وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية ،ولقد قال محمد صلى الله عليه وسلم:( وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لا تحل له ) .
وقال صلى الله عليه وسلم:( إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق ، وتدع الخالق ، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك ، وينهاك أن تزني بحليلة جارك ) .
وقد ذكر سبحانه وتعالى عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل فقال:{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآثام جزاء الإثم وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، أي أنه جزاء من نوع ما ارتكب ، ولكنه جزاء كبير ، وإطلاق الآثام بمعنى جزاء الإثم ، وارد في اللغة العربية ، فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا ، والعقوق له أثام