التّفسير
بحث آخر في صفات عباد الرحمن:
ميزة «عباد الرحمن » السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي يبعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة ،فيقول تعالى: ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ) .
فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والاجتماعية ،وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك .
الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ){[2888]} .
ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل ،ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الاحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم .
صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: ( ولا يزنون ) .
إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان ،فينتخبون الإيمان ،وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح ،فهم يتخيرون الأمان ،وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر .إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل أنواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث ،بجدهم واجتهادهم .
وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: ( ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ) .
«الإثم » و «آثام » في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة ،ثمّ أطلقت على كل ذنب ،لكنّها هنا بمعنى جزاء الذنب .
قال بعضهم أيضاً: إن «إثم » بمعنى الذنب و «آثام » بمعنى عقوبة الذنب{[2889]} فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق .
و حول فلسفة تحريم الزنا ،قدمنا بحثاً مفصلا في ذيل الآية ( 33 ) سورة الإسراء .
ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه ،أنها بحثت أولا في مسألة الشرك ،ثمّ قتل النفس ،ثمّ الزنا ،ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية .
ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،قال: سألت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): أي الذنب أعظم ؟قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك » قال: قلت: ثمّ أَيُّ ؟قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك » قال: قلت: ثمّ أيُّ ؟قال: «أن تزاني حليلة جارك » فأنزل الله تصديقها{[2890]} .
وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث ،ورد عن نوع خاص من القتل والزنا ،لكن مع الانتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا ،وما في الرّواية مصداق أوضحٌ لهما .