في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة ل «عباد الرحمن » التي هي الاعتدال والابتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال ،خصوصاً في مسألة الإِنفاق ،فيقول تعالى: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) .
الملفت للانتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمراً مسلماً لا يحتاج إلى ذكر ،ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان ،لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل ( معتدل ) بعيد عن أي إسراف وبخل ،فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً ،ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم .
في تفسير «الإسراف » و «الإقتار » كنقطتين متقابلتين ،للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد ،وهو أنّ «الإسراف » هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد ،وفي غير حق ،وبلا داع ،و«الإِقتار » هو أن ينفق أقل من الواجب .
في إحدى الروايات الإِسلامية ،ورد تشبيه رائع للإِسراف والإِقتار وحد الاعتدال ،تقول الرّواية: تلا أبو عبد الله( عليه السلام ) هذه الآية: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) .قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ،فقال: هذا الإِقتار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ،ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى كفَّه كلَّها ،ثمّ قال: هذا الإِسراف ،ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام »{[2885]} .
كلمة «قوام » ( على وزن عوام ) لغة بمعنى العدل والاستقامة والحد والوسط بين شيئين ،و«قُوام » ( على وزن كتاب ): الشيء الذي يكون أساس القيام والاستقرار .
مسألة
البخل والإسراف
لا شك أنّ «الإِسراف » واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام ،وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات ،فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: ( وإنّ فرعون لعال في الأرض وأنّه لمن المسرفين ){[2886]} .
والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم ( وإن المسرفين هم أصحاب النار ){[2887]} .
ومع الالتفات إلى أنّه أصبح ثابتاً اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست كثيرة جداً نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف ،وكل إسراف سيكون سبباً في حرمان أُناس لا ذنب لهم ،فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله .
في نفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضاً ،ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة ،فالأصل على أساس النظرة التوحيدية ،أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي ،ونحن جميعاً مستخلفون من قبله ،وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول ،ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإِسراف ولم يأذن بالبخل .